يسرى نصر الله يرأس لجنة تحكيم "صناع سينما الحاضر" سبعون عاماً هو رقم كبير حقاً. رصيد ضخم يمتلكه مهرجان لوكارنو السينمائى فى تاريخ يمتد من نهاية الحرب العالمية الثانية وتحديداً عام 1946، عندما قررت المدينة السويسرية الجنوبية الأنيقة أن تُطلق مهرجاناً سينمائياً، ليكون ترتيبه الرابع تاريخياً، فلم يسبقه فى التأسيس سوى فينيسيا عام 1932، موسكو عام 1935، ومهرجان كان فى مايو 1946 قبل شهور قليلة من لوكارنو. بين الدورة الأولى التى تضمنت عرض 15 فيلماً فقط كان من بينها «روما مدينة مفتوحة» لروبرتو روسولينى و»تعويض مزدوج» لبيللى وايلدر، والدورة السبعين المقامة حالياً بين 2 و12 أغسطس وتعرض ما يزيد على مائتى فيلم، مسيرة هائلة ظلت فيها المدينة الناطقة بالإيطالية التى لا تتجاوز مساحتها 20 كيلومترا مربعا وسكانها 15 ألف نسمة، ظلت نقطة الانطلاق لعدد كبير من الأسماء التى أصبح أصحابها لاحقاً من أساتذة السينما فى العالم. ويكفينا كسينمائيين مصريين أن لوكارنو كان أول مهرجان يؤمن بأهمية «المومياء» لشادى عبد السلام، ويعرضه وقت كان الفيلم غير مسموح بعرضه لمصر لأنهم رأوا أن مستواه غير صالح للعرض (بقى الفيلم فى العلب منذ تصويره عام 1969 حتى عُرض فى 1975). وضمن البرامج الاحتفالية التى يقيمها المهرجان فى سبعينيته، يعرض فى قسم بعنوان «لوكارنو 70» أحد عشر فيلماً قدم المهرجان أصحابها للمرة الأولى، من بينها «المومياء» ومعه أفلام لميكايل هانيكه وألكسندر سوكوروف وإريك رومر وراؤول رويز وتود هاينس، وكل هؤلاء الكبار عرفهم العالم لأول مرة فى لوكارنو. 1- عروض وتكريمات لا تُنسى لوكارنو يظل واحداً من أكثر مهرجانات العالم تركيزاً على كلاسيكيات السينما (يعرض هذا العام قرابة المائة منها)، لكنه أيضاً أحد المهرجانات التى تولى عناية كبيرة لمفهوم السينما كفن يجب تلقيه جماعياً، ويكفى المهرجان شرفاً وفخراً عروض «بياتزا جراندى» أو «الساحة الكبيرة»، التى تُنصب فيها أكبر شاشة عرض هواء طلق فى أوروبا، ليجلس أمامها كل ليلة أكثر من ثمانية آلاف شخص، يشاهدون أفلاما تم اختيارها بعناية بحيث تتناسب مع العرض لهذا العدد الهائل من الجماهير. يسبق العروض كل ليلة، تسليم جائزة الفهد التكريمية لأحد الفنانين عن مجمل أعماله، وهو أيضاً تقليد أصيل للمهرجان، ألا يتم جمع التكريمات معاً ليلة الافتتاح، بل ينال كل نجم أو فنان مكرم ليلة خاصة به، يتلقى فيها التكريم أمام الآلاف، ثم يتركهم ليشاهدوا فيلمين متتاليين، قد يكون أولهما خاص به، وقد يكتفى المهرجان بالتكريم ويعرض فيلما آخر فى حالة عدم توافر فيلم فى قائمة أعمال المكرم يناسب العرض أمام ثمانية آلاف؛ بما يحتاجه ذلك من تمتع الفيلم بحد أدنى من الحس الجماهيرى. قائمة أصحاب الفهد التكريمى تضم هذا العام أسماء كبيرة، يتصدرهم الممثل الأمريكى الحاصل على الأوسكار أدريان برودى، مواطنه المخرج تود هاينس، المخرج الفرنسى جان مارس ستروب، الممثل والمخرج الفرنسى ماتيو كاسوفيتز، المنتج البريطانى ميشيل ميركت، المصور الإسبانى خوسيه لويس ألكاين مصور أفلام بيدرو ألمودوفار، الممثلة الألمانية ناستاسيا كينسكى. أما مخرج الرعب الشهير جورج روميرو الذى توفى الشهر الماضى، فيهدى المهرجان تكريماً لروحه ويعرض فيلماً من أفلامه إحياءً لذكراه. 2- منافسات ثرية المهرجان يضم ثلاث مسابقات رسمية: المسابقة الدولية للأفلام الطويلة، مسابقة صناع سينما الحاضر لأفلام العمل الأول، ومسابقة فهود الغد للأفلام القصيرة. المسابقات الثلاث عموماً تجنح إلى اكتشاف المواهب المغامرة فى العالم، بما فيها المسابقة الدولية التى لا تجتذب الأسماء البراقة التى نجدها فى كان وفينيسيا وتورنتو، لكنها دائماً ما تضمن أفلاما عالية القيمة لمخرجين أقل شهرة. هذا العام تبدو مسابقة «صناع سينما الحاضر» هى الأكثر ثراءً حتى لحظة كتابة السطور (يرأس لجنة تحكيمها المخرج المصرى الكبير يسرى نصر الله)، باحتوائها على أكثر من فيلم ممتاز يمكن تصور بدء كل منهم رحلة حافلة فى المهرجانات انطلاقاً من لوكارنو كما فعل فيلم محمد حماد «أخضر يابس». الفيلم الذى لم يكن أحد يعرفه قبل دورة العام الماضى، وصار بعدها من الأسماء المعروفة والمحببة فى عالم المهرجانات والجوائز. من بين الأفلام الملفتة فى المسابقة فيلم «أم مرعبة Scary Mother»، الفيلم الطويل الأول للمخرجة الجورجية أنا أورشادزى، التى تدخل العالم النفسى لزوجة وأم من الطبقة المتوسطة الجورجية، تعانى مما تعانى منه سيدات الطبقة فى العالم كله: التعاسة النابعة من تكريس حياتها بالكامل لخدمة زوج وأولاد لا يمنحونها فى المقابل سوى عدم الاهتمام إلا بالتعليق السلبى على مظهرها وأفعالها. إلا أن البطلة مانانا تعيد اكتشاف موهبة امتلكتها فى طفولتها، بأن تكتب رواية تمزج فيها واقعها بحكاية فانتازية عن زوجة فى ظروف مشابهة تتحول لوحش مخيف. كما هو متوقع يتحول تجاهل أسرة مانانا لما تفعله وتهتم به إلى قلق وخوف عندما تقرأ عليهم مقطع من روايتها التى تحلل بشكل ما علاقتها معهم وتأثيرهم عليها، فيحاول الزوج بكل الطرق إثناءها عن فكرة الكتابة وإقناعها أنها تضيع وقتها وتفسد حياتها دون موهبة حقيقية. فالمؤمن الوحيد بموهبتها هو صاحب متجر البقالة المجاور الذى يسعى أن يكون ناقداً أدبياً، والذى يكاد هوسه بكتابات مانانا يعكس اضطهاد مماثل عاشه فى حياته. المخرجة ترسم عالما كابوسيا فى العاصمة الجورجية تيبليسى، تعيش فيه البطلة التى يستحيل أن نتأكد إذا ما كانت موهوبة بالفعل أم أنها تقوم فقط بإفراغ شحنة عاطفية. عالم كل من فيه تعيس وإن حاول أن يقنع نفسه بالعكس. مانانا تكسر دائرة الرتابة والتوقعات لتجد الكل يقف فى وجهها، لتتحول تعاستها إلى قدرة تدميرية موجهة للذات قبل الغير، أى أنها تتحول بصورة ما للوحش الذى ذكرته فى روايتها. 3- وجهاً لوجه على النقيض يأتى فيلم آخر ممتع هو «وجهاً لوجه Person to Person» للمخرج الأمريكى داستن جاى ديفا. فإذا كان الفيلم الجورجى يروى واقعاً كابوسياً صرنا معتادين على مشاهدة نسخ متنوعة منه فى الأفلام، فالفيلم الأمريكى يُقدم على النقيض تماماً، ولا يخجل صانعه من أن يكون رومانسياً يعامل جميع شخصياته بحب وتعاطف. مجموعة من الحكايات تدور فى يوم واحد بمدينة نيويورك، تتقاطع فيها مصائر عدة شخصيات: جامع إسطوانات يتعرض لعملية نصب، صحفية شابة تخوض مغامرة مع مديرها للتحقيق فى جريمة قتل، شاب يحاول الخروج من شعور بالذنب تجاه حبيبته، وفتاة تضطر لحضور لقاء عاطفى مع صديقتها. التباين بين الأحداث من القتل للقاء العاطفى يبدو واضحاً على المستوى النظرى، أما عملياً فقد تعامل المخرج مع كل الخطوط بالقدر نفسه من الهدوء والتفهم حتى لمن يُقدم على فعل سلبى. هذا فيلم لا تخجل شخصياته من أن تكون رقيقة. فيلم أكثر لحظاته إثارة هى مطاردة تتم بين رجلين يركبان دراجتين، تنتهى بأحدهما يلكم الثانى ثم يشرح له أنه كان عليه الانتقام كى يُشعره بخطأ ما فعله. وفى عالم زاخر بالجرائم والأفلام التى تفيض بالمشاعر السلبية، نبدو فى حاجة لفيلم كهذا من وقت لآخر. 4- زين الدين زيدان بطلاً أما خارج المسابقات فقد تضمنت العروض خارج المسابقة فيلماً مثيراً للاهتمام خاصة لمحبى الرياضة، هو فيلم «نازيدان» للمخرجين الروسيين بوريس يوخانانوف وألكسندر شاين، اللذين يقومان على مدار ساعتين ونصف الساعة بتحليل حدث لم يستغرق سوى ثانية واحدة، هو قيام أسطورة الكرة الفرنسية زين الدين زيدان بالاعتداء على المدافع الإيطالى ماركو ماتيراتزى فى مباراة نهائى كأس العالم، والتى كانت آخر مباراة يخوضها زيدان قبل الاعتزال. الفيلم يبحر فى حياة زيدان وماتيراتزى الشخصية، وماضيهما الكروى مظهراً أوجها للتشابه والتناقض بينهما، ويربط الأمر بثقافة الكرة بحس أسطورى يوضح كيف يمكن لتفاصيل صغيرة أن تغير حياة وثقافة الملايين. الفيلم الذى يحتوى على مواد أرشيفية بالغة الثراء عمل ممتع لمن يريد أن يرى كرة القدم من زاوية مختلفة عن السائد، كما أنه ممتع لمن يريد استعادة لحظة من أكثر اللحظات درامية وتأثيراً فى تاريخ اللعبة الشعبية. كُتب هذا المقال فى نهاية النصف الأول من المهرجان، ولا يزال أمامنا العديد من الأفلام والموضوعات لاكتشافها خلال هذه الدورة الاحتفالية من لوكارنو، مهرجان الاكتشافات السينمائية.