■ حفيدته: عَشِقَ موسيقى «بيتهوفن».. و«الريحانى» أقرب أصدقائه ■ رشحه البرنس محمد على لافتتاح الإذاعة المصرية.. فاستجاب بعد إلحاح الأزهر ■ رفض 100 جنيه فى الليلة من «مهراجا هندى».. ووافق ب3 جنيهات من مصر ■ استقبل عبدالوهاب وليلى مراد وزكريا أحمد فى صالونه الثقافى.. واحتضن «نعينع» ■ تنازل عن 5 آلاف جنيه تبرعات لمرضه.. وقال: قارئ القرآن لا تجوز عليه الصدقة تميز بحنجرته، وحفر اسمه بعذوبة صوته، وانسيابية مخارج ألفاظه، فى قلوب مستمعيه، رغم اختلاف أجيالهم وأذواقهم، قال عنه الأديب محمد السيد المويلحى فى مجلة الرسالة «هو سيد قراء زمانه»، إنه القارئ الشيخ محمد رفعت. استطاع بموهبته الفذة أن يكون حجر الأساس فى تمتع المصريين بإحدى أهم نفحات شهر رمضان الكريم، فمن ذا الذى يقوى على الإحساس بمتعة الصيام دون الهيام فى صوت «رفعت» إذ يرتفع ب«الله أكبر» أذان كل مغرب من أيام الشهر الفضيل. حاولت «الفجر» التواصل مع أى من أفراد أسرته، فمع أول أيام شهر رمضان، كان لازامًا علينا الغوص فى تفاصيل حياة مطرب أذان الصائمين، فالتقينا السيدة هناء، 64 عامًا، حفيدة الشيخ محمد رفعت، التى فاجأتنا بأنها لم تلتق جدها قط، إلا أن والدها لم يزل يحدثها عنه وعن حياته حتى مماته. قالت «هناء»، ولد الشيخ محمد رفعت فى 9 مايو عام 1882، فى درب الأغاوات بمنطقة المغربلين، وابتلاه الله بفقدان بصره وهو ابن عامين، بعد إصابته بمرض «الرمد»، ومنذ حينها جعله والده شغله الشاغل، فبدأ يحفظه القرآن الكريم، وعندما أتم عمر 5 سنوات، كان والده قد حفظّه ثلث القرآن، وأرسله لكُتّاب «بشتك» بمنطقة درب الجماميز فى حى السيدة زينب ليكمل الحفظ هناك. وفى التاسعة من عمره، توفى والده محمود رفعت، والذى كان يعمل مأمورًا لقسم شرطة الخليفة، ليجد الطفل اليتيم نفسه مسئولا عن أسرته، فالآن هو عائلها الوحيد، درس علم قراءات القرآن الكريم وعلم التفسير، ثم المقامات الموسيقية، وأول من اكتشف حلاوة صوته هو شيخ الكُتّاب، فمن وسط الأطفال كان صوته آسرًا لكل من سمعه، وهذا ما دفع الشيخ الصغير إلى الاعتصام بالقرآن، وإتقان تعاليمه. تولى قراءة القرآن فى مسجد فاضل باشا بحى السيدة زينب وهو لم يبلغ ربيعه ال15 بعد، فحظى بشهرة واسعة، ونال محبة الناس، واكتسب المال الذى ساعده فى الإنفاق على أسرته المكونة من 5 أفراد، هم: أمه، وخالته، وأخوه، وأخته، بالإضافة إليه، وكان يعطى خالته كل أجره؛ حتى لا تشعر بالغربة بينهم، وظل القارئ الرئيسى لجامع فاضل باشا طوال حياته، وكان ذلك الجامع قِبلة راغبى الاستماع إلى الشيخ «رفعت» من كل أرجاء المعمورة. تزوج الشيخ «رفعت» فى سن صغيرة، وأنجب ثلاثة أولاد وبنت، أنجبوا له 16 حفيدًا، وكونه كفيفًا لم يمنعه من الاستيقاظ يوميًا فى شهر رمضان قبل صلاة الفجر، ليمر ب«القُلة» على أبنائه ليشربوا قبل الأذان، واعتاد الشيخ تقبيل يد كل من يُقبل يده، وذات مرة، أثناء وجوده فى المسجد برفقة ابنه الأصغر «حسين»، أقبل على الشيخ رجلا يرتدى ملابس غير نظيفة، ومظهره غير لائق، فانحنى أمام الشيخ وقبّل يده، فما كان من الشيخ إلا أن قبّل يد الرجل، فأغضب ذلك «حسين»، وقال لوالده: «إزاى تبوس إيده وهو مش نضيف؟»، فابتسم له الشيخ وأجابه: «ده ممكن يبقى أحسن من أبوك عند ربنا». وبالرغم من تلقى الشيخ عروضًا كثيرة ليقرأ فى مساجد أكبر، وأكثر شهرة من مسجد فاضل باشا، مثل مسجد السيدة زينب، ومسجد الحسين، إلا أنه رفض ترك المسجد الذى تعلم فيه كل شىء، ودومًا ما افترش مُحبو الشيخ «رفعت» الأرض خارج المسجد بعد امتلاء ساحته، وأذكر من المواقف الطريفة التى حكاها والدى عن جدى، أن ال»تُرماى» رقم 5 كان يمر من أمام المسجد أثناء الصلاة، وفى كل مرة كان يشير الكُمسرى للسائق ليتوقف، رغم عدم وجود ركاب، أو محطة رسمية للوقوف، كان يتوقف ليستمتع فقط بصوت الشيخ «رفعت»، الغريب أن الكُمسرى كان قبطيًا. وطلب المهراجا الهندى حيدر باشا أباد، من الشيخ «رفعت» أن يسافر إلى الهند لإحياء ليالى شهر رمضان هناك، وهذا ما رفضه الشيخ، فظن المهراجا أن رفض الشيخ راجع لضعف المقابل المادى، فقرر زيادة أجر الشيخ، وكلما رفض الشيخ كلما زاد المهراجا الأجر، حتى تخطى أجر الشيخ فى الليلة الواحدة 100 جنيه، وهو مبلغ خيالى آنذاك، إلا أن الشيخ أصر على رفض العرض، ليقضى شهر رمضان فى المسجد الذى قرأ فيه دائمًا، وسط مريديه ومحبيه. ورشحه البرنس محمد على -أحد أمراء العائلة المالكة فى مصر آنذاك- إلى افتتاح الإذاعة المصرية، وعندما أبلغوا الشيخ بذلك رفض فى البداية، خوفًا من احتمالية وجود الإذاعة فى مكان لا يليق بالقرآن الكريم، فحاول العديد من الشيوخ إثناءه عن رفضه، لكنهم فشلوا، فى ظل إصراره على الرفض، حتى استطاع الشيخ «السمالوطي»، شيخ الأزهر حينها، إقناعه بالعدول عن رفضه، وبالفعل افتتح الشيخ محمد رفعت الإذاعة المصرية عام 1934، وكان يتقاضى فى القراءة الواحدة 3 جنيهات، وكان يقرأ يوميًا على الهواء مباشرة، فيما عدا يوم الأحد. واعتاد الشيخ على محمود، أحد أكبر قراء القرآن فى الإذاعة، الامتناع عن القراءة تماما، والجلوس لسماع الشيخ «رفعت»، وما أن يبدأ فى الاندماج مع القراءة حتى يجهش فى البكاء، وكذا الشيخ «الشعراوى»، أما الشيخ أبوالعينين شعيشع، فكان يستمع للشيخ «رفعت» بإنصات بالغ، حتى ينجح فى تقليده، والوصول إلى طبقات صوته، وذات مرة، أخبره أحد المقربين منه بأمر الشيخ «نعينع» وأنه يحاول تقليده، فقال الشيخ «رفعت»: «لا لم يُقلدنى، ومنحه الله صوتًا رائعًا»، وسارع «رفعت» باحتضان وتشجيع «نعينع»، ذلك القارئ الموهوب الذى يصغره سنًا. أقام الشيخ «رفعت» صالونًا ثقافيًا كبيرًا، قصده الكثير من الفنانين والمثقفين، مثل: أحمد رامى، وكامل الشناوى، ومحمد التابعى، واعتادت الفنانة ليلى مراد، الذهاب إليه قبل إسلامها برفقة والدها، لسماع الشيخ وهو يقرأ القرآن، على الرغم من أنها كانت يهودية الديانة فى ذلك الوقت، وكانت تربطه علاقات صداقة قوية بموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، والمطرب صالح عبدالحى، والشيخ زكريا أحمد، وفتحية أحمد، وكان شيخًا مستنيرًا، متفتحًا، وسطيًا، لم يكن متعصبًا، وكان يستمع إلى الموسيقى، ويحبها، وكان دائم الاستماع إلى إسطوانات «موتسارت، وبيتهوفن، وباخ». وفى أيامه الأخيرة، كان أقرب أصدقائه هو الممثل القبطى الكبير نجيب الريحانى، ودائما ما حاول «الريحاني» التخفيف عنه والوجود بجواره، وحينما نشرت جريدة «المصور» صورة له أثناء مرضه، جمع محبوه نحو 5 آلاف جنيه كتبرعات له، وأعطوا المبلغ للصحفى فكرى أباظة، ليمنحها للشيخ بحكم صداقتهما، إلا أن الشيخ رفضها، قائلا: «قارئ القرآن لا تجوز عليه الصدقة، والفلوس دى رجعوها للى يستحقها». وفى أواخر عام 1939، مرض الشيخ «رفعت» بسرطان الحنجرة، وانقطع عن القراءة فى الإذاعة، وكانت تهاجمه «الزُغُطة» باستمرار، فقرر الابتعاد عن الإذاعة، والاكتفاء بالقراءة فى مسجد فاضل باشا، قائلا: «دول حبايبى.. وهيستروا عليّ»، وفى عام 1942، أثناء قراءته فى المسجد، هاجمته «الزُغُطة» بشكل مستمر، ولم تتوقف تمامًا، فلم يستطع القراءة، فأجهش فى البكاء، فبكى جميع من فى المسجد حزنًا على الشيخ، وكانت هذه هى المرة الأخيرة التى قرأ فيها الشيخ «رفعت» القرآن، حتى توفاه الله فى 9 مايو 1950. وعن تراثه، فقد سجل زكريا باشا مهران صوت الشيخ محمد رفعت من الإذاعة، ولكنه كان تسجيلا شخصيًا، خاصًا به وحده، وبعد وفاة الشيخ استخرج زكريا باشا جميع التسجيلات التى سجلها له، فكانت مدتها 30 ساعة متصلة، بخلاف الحفلات النادرة، التى لم تخرج للجمهور، ولم يسمعوها حتى الآن، وهذا ما أعمل على تنقيته، وتنقيحه، ومونتاجه، لنُخرج لجمهور الشيخ «رفعت» عدد ساعات جديدة، وبالفعل تم الانتهاء من 10 ساعات كاملة جديدة، ومتبقى نحو 20 ساعة أخرى.