منذ بدء "عاصفة الحزم" 26 مارس، أبدت روسيا قلقاً واضحاً إزاء ما يجرى وتداعياته المستقبلية على استقرار المنطقة، وأكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أهمية الوقف الفوري للقتال في اليمن، وضرورة تفعيل الجهود، بما في ذلك جهود الأممالمتحدة، لبلورة حلول سلمية للنزاع اليمنى، وإطلاق حوار واسع بمشاركة جميع القوى السياسية والدينية في البلاد، وعبر المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديميتري بيسكوف عن شدة قلق موسكو من تطورات الأوضاع في اليمن. تزامن هذا مع تأكيد الخارجية الروسية على دعم موسكو لسيادة اليمن ووحدة أراضيه، داعية الأطراف اليمنية وحلفاءها إلى وقف الأعمال القتالية، وجاء في بيان لوزارة الخارجية الروسية أن "موسكو تعبر عن قلقها البالغ من الأحداث الأخيرة في الجمهورية اليمنية الصديقة وتؤكد دعمها الثابت لسيادتها ووحدة أراضيها". وأكد وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف على أن "السبيل الوحيد لحل الأزمة اليمنية هو المفاوضات، وشدد على أن اللعب على التناقضات بين الشيعة والسنة أمر بالغ الخطورة"، وينبع الموقف الروسى من "عاصفة الحزم" من القلق الروسى الشديد إزاء التداعيات المحتملة للعملية وإمكانية خروجها عن نطاق السيطرة، وأن تكون النجاحات الأولى للضربات العربية مجرد تقدم مؤقت يعقبه صراع إقليمى ممتد تتورط فيه أطراف أخرى على نحو غير مباشر، أو مباشرة ليتحول الصراع إلى حرب إقليمية تقضى على الأخضر واليابس، وتطيح بالمصالح الروسية وتضع موسكو فى خيارات صعبة. "المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية"، رصدت الموقف الروسى من "عاصفة الحزم" فى ضوء جملة من العوامل، لعل أبرزها: 1- حرص روسيا على استقرار المنطقة كتوجه عام حاكم لسياستها فى الشرق الأوسط: يقع الشرق الأوسط بالقرب من التخوم الروسية ويعتبر منطقة جوار شبه مباشر لروسيا، وللأخيرة مصالح هامة وحيوية فى المنطقة، وتنطلق السياسة الروسية من ضرورة الحفاظ على استقرار المنطقة كمتطلب أساسى لضمان المصالح الروسية، وهى بذلك ضد التغيرات الثورية والحروب الأهلية وأى أعمال أخرى تهدد الاستقرار الإقليمى. وروسيا أميل إلى تحقيق أهدافها ومصالحها من خلال علاقات تعاونية مع دول المنطقة على النحو الذى يخدم مصالحها ومصالح الأطراف العربية، وهو أمر يبدو مستحيلاً فى مناخ عدم الاستقرار وغياب سلطة شرعية تحكم قبضتها على مقاليد الأمور وتفى بتعهداتها الدولية تجاه روسيا وغيرها من الدول. 2- التخوف من اختلال التوازن فى علاقات روسيا بالقوى الإقليمية المختلفة: استطاعت روسيا على مدى العقدين الماضيين تطوير علاقاتها مع كل من إيران ودول فى آن واحد، وأن تبقى على التوازن فى علاقاتها الاستراتيجية مع طهران بالتوازى مع تنمية التعاون مع دول الخليج خاصة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وفى الوقت الذى شهدت فيه العلاقات الروسية الإيرانية تطوراً ملحوظاً ونمواً مضطرداً، ونجحت زيارة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين إلى طهران عام 2007، والتى كانت الأولى منذ 64 عاما والثانية لزعيم روسي بعد جوزيف ستالين، فى الانتقال بالعلاقات الروسية الإيرانية إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية فى مختلف المجالات، تطورت العلاقات الروسية الخليجية على نحو ملحوظ وحققت قفزات واضحة خاصة فى أعقاب زيارات بوتين لعدد من دول الخليج عام 2007، واستطاعت موسكو إعادة إطلاق علاقاتها مع دول الخليج وإحداث تطور غير مسبوق فى العلاقة معها وخاصة المملكة العربية السعودية بعد عقود طويلة من توقف العلاقات بين موسكو والرياض منذ ثلاثينات القرن الماضى. وألقت الأزمة السورية بظلال وتداعيات سلبية واضحة على العلاقات الروسية الخليجية فى ضوء تناقض المصالح وتباعد المواقف من الأزمة بين الجانبين، وأدت إلى فتور مازال يخيم على العلاقات بين الطرفين، فى حين أحدثت الأزمة نقلة نوعية فى العلاقات الروسية الإيرانية تعمقت فى ضوء توقيع البلدين اتفاقاً للتعاون العسكري التقني فى 20 يناير من العام الجارى خلال زيارة وزير الدفاع الروسى لإيران والتى تعد الأولى منذ 15 عاما حيث كانت الأخيرة على هذا المستوى عام 2000. إن روسيا حريصة على علاقاتها بدول الخليج العربية بقدر حرصها على العلاقة مع إيران، وأعلن وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف فى فبراير 2014 عن استعداد موسكو للإسهام في تطبيع العلاقات بين إيران ودول الخليج، وأشار إلى أن ضعف الثقة المتبادلة بين الجانبين يسيء لمصالح دول المنطقة، واقترح إطلاق عملية من شأنها أن تسمح ببدء حوار بين الطرفين، وعقد اجتماع دولي حول ضمان الأمن في منطقة الخليج. وتختلف الرؤية الروسية فى هذا الخصوص تماماً عن رؤية دول كبري أخري، والتى ترى فى العلاقات والتفاهمات الثنائية بينها وبين دول الخليج العامل الأهم فى تحقيق الاستقرار من عدمه فى المنطقة، وتتخوف روسيا من أن تؤدى الأزمة اليمنية إلى مزيد من التباعد بين الطرفين حيث تضع عملية "عاصفة الحزم" دول الخليج فى مواجهة مباشرة مع إيران التى تدعم الحوثيين. ومن ثم تتحفظ روسيا ولا تعلن دعماً صريحاً لأياً من الطرفين، الأمر الذى يمكنها من الانفتاح على مختلف الأطراف، ويرفع عنها الحرج ويحفظ لها التحالف مع إيران، دون مزيد من الإضرار بعلاقاتها مع دول الخليج. 3- التخوف من اتساع نطاق العمليات العسكرية وتحولها إلى حرب إقليمية: تبدى روسيا قلقاً شديداً من اتساع نطاق المعارك وإمتدادها إلى دول أخرى، وتتخوف من أن يدفع نجاح دول الخليج فى تحقيق أهدافهم فى اليمن إلى تكرار العملية فى دول أخرى خاصة سوريا. وفى هذه الحالة لن تستطيع روسيا الاستمرار فى سياسة الحياد والتحفظ، لأنه لا يمكنها التضحية بشريك أساسى مثل سوريا، وقد تجد نفسها فى مواجهة غير مباشرة مع دول الخليج الأمر الذى سيضر حتماً بمصالحها الهامة فى المنطقة، كما تبدى روسيا قلقاً من إمكانية تورط قوى إقليمية، فى مقدمتها إيران التى تدعم الحوثيين، فى الصراع وتحوله إلى حرب إقليمية واسعة النطاق على مقربة منها. يزيد من هذه المخاوف لدى روسيا مشاركة باكستان فى العمليات والتى يغلب على علاقاتها بإيران التوتر والتنافس الإقليمى. 4- التخوف من تبعات العملية بزيادة نفوذ المتشددين والقاعدة باليمن: تتخوف روسيا كثيراً من أن تؤدى "عاصفة الحزم" إلى إثارة التطرف فى اليمن وزيادة نفوذ المتشددين الإسلاميين، وتنظيم القاعدة فى المنطقة التى يشهد نشاطها بالفعل نمواً واضحاً وتعتبر فاعلا رئيسيا فيما تشهده اليمن من صراعات على مدى السنوات الأربع الماضية منذ اندلاع الثورة بها. ومن المعروف أن روسيا، على عكس الولاياتالمتحدة، ليست على علاقة طيبة بتيارات الإسلام السياسى بصفة عامة والجماعات الارهابية والمتطرفة، وترفض مجرد الحوار مع الأخيرة وترى فيها تهديداً مباشراً للأمن القومى الروسى، وتسعى جاهدة لمكافحة الارهاب والقضاء على التطرف داخل روسيا وفى دول جوارها، وتخوفت كثيراً من صعود تيار الاسلام السياسى وأبدت إنزعاجاً وقلقاً واضحاً إزاء وصوله إلى السلطة فى بعض دول المنطقة، خاصة وإنها تدرج جماعة الأخوان المسلمين وعدد من الجماعات الاسلامية المتشددة ضمن قائمة المنظمات الارهابية لديها منذ عام 2003. ورأت أن هذا سيؤدى إلى توسيع نشاط القاعدة والجماعات الارهابية والمتطرفة، وسيكون لهذا أصداء فى الداخل الروسى الذى لا يزال يعانى من الارهاب فى أعقاب الموجات العنيفة من عدم الاستقرار فى منطقة القوقاز الروسى طوال عقد التسعينات من القرن الماضي. ورغم استخدام موسكو القوة بصرامة للقضاء على الارهابيين فى تلك المنطقة، ومكافحة الارهاب فى أراضيها الجنوبية فى القوقاز بشتى الوسائل الأمنية والتنموية، مازال الارهاب جرح يدمى القوقاز وروسيا. 5- شكوك روسيا فى أن تكون "عاصفة الحزم" عملية أمريكية بأيدى عربية: ترى روسيا أن المستفيد الأول من عدم الاستقرار فى المنطقة هو الولاياتالمتحدة، التى تحاول تصفية القدرات العربية بضرب ببعضها ببعض والتلاعب باستقرار هذه الدول والتوازنات العرقية والدينية والمذهبية داخلها لخدمة مصالحها على حساب أمن دولها والأمن والاستقرار الإقليمى. ورأت موسكو أن واشنطن تسعى إلى إحكام قبضتها على المنطقة ووضع حد للشراكة العربية المتنامية مع القوى الآسيوية وفى مقدمتها روسيا، وذلك من خلال إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط جغرافياً وسياسياً، وإضعاف القوى الإقليمية الهامة العربية وغير العربية الكبرى، وخلق كيانات ضعيفة يسهل توجيهها ولا تمثل خطر على مصالحها. يعزز من المخاوف الروسية خبرة التدخل الأمريكى فى ليبيا ومن قبلها العراق، ودعمها للثورات العربية، والسياسة الأمريكية غير الفعالة تجاه "داعش" وغيرها من المنظمات الارهابية التى تهدد الاستقرار الإقليمى والدولى. وقد تمثل عملية "عاصفة الحزم" ضغطاً على إيران وإضعاف لموقفها فى المفاوضات الجارية بينها وبين الولاياتالمتحدة. وترى روسيا أن الدعم الأمريكى للعملية هو لتحقيق مصالح أمريكية خالصة، ويفتح الباب أمام تصفية الحسابات القديمة بين الولاياتالمتحدةوإيران وكسر شوكة طهران. صحيح أن مثل هذه التخوفات لم تأت صراحة على لسان المسئولين الروس، إلا إن بعض الصحف الروسية عكستها على نحو واضح، وهاجمت وكالة أنباء "سبوتينيك" الروسية السياسات الأمريكية وموافقتها على التحرك العربى فى اليمن، وقالت الوكالة الروسية إن "الولاياتالمتحدة تنظر إلى نفسها وحلفائها على أنهم لا يخضعون لقوانين التصرف الطبيعية التى تنطبق على غيرهم"، معتبرة أن التحركات الأمريكية "مزدوجة المعايير".