صافرات إنذار وانفجارات تدوي في تل أبيب بعد إطلاق صواريخ إيرانية على إسرائيل    أكسيوس: نتنياهو يرجّح دخول ترامب الحرب ضد إيران خلال الأيام القادمة    المرشد الإيراني: سنتعامل بقوة مع العدو ولن نساومه أبدًا    كأس العالم للأندية 2025| باتشوكا يواجه سالزبورج بصافرة عربية    كأس العالم للأندية| كوكا يغيب عن مران الأهلي    صرخات تحت الركام.. سماع أصوات الضحايا تحت العقار المنهار بحي السيدة زينب.. فيديو    حملات لمتابعة مواعيد الغلق الصيفية وترشيد الكهرباء بالبحيرة (صور)    إيران: هناك مفاجأة الليلة سيتذكرها العالم لقرون عديدة    إعلام عبري: أنباء عن سقوط صواريخ في مواقع وسط إسرائيل    تموين دمياط يضبط 7.5 طن مخللات غير صالحة للاستهلاك    جاكلين عازر تهنئ الأنبا إيلاريون بمناسبة تجليسه أسقفا لإيبارشية البحيرة    تشكيل صن داونز لمواجهة أولسان هيونداي في كأس العالم للأندية    ريفر بليت يضرب أوراوا بثلاثية في كأس العالم للأندية    عصام الحضري: بيكهام توقع فوز الأهلي على إنتر ميامي في مونديال الأندية    المستشار محمود فوزي: تصنيف الإيجار القديم لن يكون مقاسا واحدا.. وسيراعي هذه الأبعاد    إصابة 7 أشخاص في انفجار أسطوانة غاز داخل منزل بالبحيرة    إنقاذ طفل احتجز داخل مصعد بمساكن دهشور    أعمال الموسيقار بليغ حمدي بأوبرا الإسكندرية.. الخميس    ألونسو: مواجهة الهلال صعبة.. وريال مدريد مرشح للتتويج باللقب    أسعار الزيت والسلع الأساسية اليوم في أسواق دمياط    نجم سموحة: الأهلي شرف مصر في كأس العالم للأندية وكان قادرًا على الفوز أمام إنتر ميامي    تشكيل مانشستر سيتي المتوقع أمام الوداد في كأس العالم للأندية    عليك اتخاذ موقف مع شخص غير ناضج.. توقعات برج الحمل اليوم 18 يونيو    توقف عن تضييع الوقت.. برج الجدي اليوم 18 يونيو    تجنب التسرع والانفعال.. حظ برج القوس اليوم 18 يونيو    «القطة العامية» للكاتبة رحاب الطحان في مكتبة القاهرة الكبرى.. الخميس    الشيخ أحمد البهى يحذر من شر التريند: قسّم الناس بسبب حب الظهور (فيديو)    الجبنة والبطيخ.. استشاري يكشف أسوأ العادات الغذائية للمصريين في الصيف    الأردن: نتعامل مع الأوضاع الإقليمية من منطلق الحفاظ على سيادتنا    ضعف مياه الشرب ب 9 قرى بمركز المنشأة في سوهاج لهذا السبب (اعرف منطقتك)    تعليم الغربية: 30 يونيو آخر موعد للتقديم فى رياض الأطفال والصف الأول    أخبار 24 ساعة.. مجانا برقم الجلوس.. اعرف نتيجة الشهادة الإعدادية بالقاهرة    ضبط 3 أطنان أعلاف حيوانية غير صالحة بكفر الشيخ    جرح قطعي بالرأس.. إصابة طالب في مشاجرة ببني مزار بالمنيا    «الربيع يُخالف جميع التوقعات» .. بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم الأربعاء    رسميًا.. فتح باب التقديم الإلكتروني للصف الأول الابتدائي الأزهري (رابط التقديم وQR Code)    «إيد واحدة».. قوافل التحالف الوطني ركيزة أساسية لتنمية المجتمع    العدل يترأس لجنة لاختبار المتقدمين للالتحاق بدورات تدريبية بمركز سقارة    عيار 21 الآن يسجل رقمًا جديدًا.. سعر الذهب اليوم الأربعاء 18 يونيو بعد الانخفاض بالصاغة    الغرفة التجارية تعرض فرص الاستثمار ببورسعيد على الاتحاد الأوروبى و11 دولة    علي الحجار يؤجل طرح ألبومه الجديد.. اعرف السبب    النفط يقفز 4% عند إغلاق تعاملات الثلاثاء بدعم من مخاوف ضربة أمريكية لإيران    الأبيدى: الإمامان الشافعى والجوزى بكيا من ذنوبهما.. فماذا نقول نحن؟    مصطفى الفقي: إيران تحارب باسم الفارسية لا الإسلام ونظامها عقائدي يصعب إسقاطه    11 عملية إزالة مياه بيضاء ناجحة داخل مستشفى رمد المنيا بعد التطوير    افتتاح مؤتمر معهد البحوث الطبية والدراسات الإكلينيكية للارتقاء بالبحث العلمي    أرنولد: التدريبات في ريال مدريد عالية الجودة    اللواء نصر سالم: الحرب الحديثة تغيرت أدواتها لكن يبقى العقل هو السيد    ثقافة بورسعيد تناقش أثر التغيرات المناخية وتُفعّل أنشطة متنوعة للأطفال احتفالًا بالبيئة والعام الهجري    القصة الكاملة لأزمة هند صبري بعد مطالبات ترحيلها من مصر    فضل صيام رأس السنة الهجرية 2025.. الإفتاء توضح الحكم والدعاء المستحب لبداية العام الجديد    جامعة دمياط تتقدم في تصنيف US News العالمي للعام الثاني على التوالي    الشيخ خالد الجندي يروي قصة بليغة عن مصير من ينسى الدين: "الموت لا ينتظر أحدًا"    محافظ الأقصر يوجه بصيانة صالة الألعاب المغطاة بإسنا (صور)    التعليم العالى تعلن فتح باب التقدم للمنح المصرية الفرنسية لطلاب الدكتوراه للعام الجامعى 2026    5 فواكه يساعد تناولها على تنظيف الأمعاء.. احرص عليها    أمين الفتوى يكشف عن شروط صحة وقبول الصلاة: بدونها تكون باطلة (فيديو)    مستشفيات الدقهلية تتوسع في الخدمات وتستقبل 328 ألف مواطن خلال شهر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ننشر نص كلمة شيخ الأزهر في افتتاح المؤتمر العالمي للمجلس الأعلي للشئون الإسلامية
نشر في الفجر يوم 25 - 03 - 2014

رحب شيخ الأزهر بالوفود العربية والاسلامية المشاركة في المؤتمر العالمي للمجلس الاعلى للشئون الاسلامية ، واستهل كلمته :
أهلًا بكم جميعًا ومرحبًا في بلدكم الثاني: مصر الكنانة، وأرجو لكم جميعًا التوفيقَ من اللهِ تعالى في هذا المُؤتمَر الذي تتحدثون فيه أخطر قضايا أمَّتِنا العربيَّةِ والإسلاميَّةِ في عصرنا الحاضر.. تلكم هي قضيَّةُ فَوْضَى تكفير المسلمين، وفَوْضَى الفتوى بحلِّ قتلِهم وقتالِهم. وهي مِحنةٌ كُبرى تُعاني منها بعضُ مُجتَمَعاتنا عَناءً شديدًا، وكُنَّا نظنُّ أنَّ هؤلاء المكفرين قد استعادوا وعيَهم وفهم لدينهم فهمًا صحيحًا، وتخلَّصوا من هذه الآفةِ ومن توابعها المُدمِّرةِ منذُ تسعينات القرن الماضي في مصرَ وغيرِها من البلدانِ والأقطار، غير أنَّنا فوجئنا بهذه الآفة تطل – أخيرا - على بلادنا بوجهِها القبيحِ وتقضُّ مَضاجعَ شُعوبٍ عربيَّةٍ وإسلامية بأكمَلِها في آسيا وإفريقيا على السَّواء؛ تَقتُلُ وتُدمِّرُ وتُفجِّرُ وتَغتالُ الآمِنين الغافلين البُرآء، وتُحوِّلُ حياةَ الناس إلى جحيمٍ لا يُطاق..
ومن المُؤلِم غايةَ الألمِ أنْ تُرتَكَبَ هذه الجرائمُ باسمِ الإسلامِ وباسمِ شريعتِه السَّمحاء، وتُنفَّذ عملياتها المدمرة مع صَيْحات التَّهليلِ والتَّكبيرِ ودَعوى الجِهاد والاستِشهاد في سبيلِ الله. الأمرُ الذي استَغلَّه الإعلامُ الغربيُّ أسوأَ استغلالٍ في تشويهِ صُورةِ الإسلامِ، وتقديمِه للعالم بحسبانه دِينًا هَمَجِيًّا مُتعطِّشًا لسَفكِ الدِّماء وقتلِ الأبرياء ويحثُّ على العُنفِ والكراهيةِ والأحقادِ بين صُفوفِ أبنائه وأتباعه..
وظاهرةُ تكفيرِ المُخالِفين هذه – وما يَترتَّبُ عليها من استباحةِ الدِّماءِ – ليست بالجديدةِ على المُجتَمعات الإسلاميَّةِ، وفِقهُها فقهًا ليس فقهًا جديدًا على المسلمين، فكلُّنا درسنا تاريخَ فِرقةِ الخَوارجِ، وظُهورَها المُبكِّر في صَدر الدولةِ الإسلاميَّةِ، وكيف أنَّها انحرَفتْ إلى هذه الكارثة نتيجةَ انحرافٍ سابقٍ في تَصوُّرِها العَقديِّ والفِقهيِّ، وأعني هنا فهمَها الخاطِئ للعلاقةِ بين مفهومِ الإيمان بالله -تعالى- كأصلٍ، والأعمالِ كفرعٍ، وكيف ضَلَّت حين تشبَّثت ببعض الظواهر وأدارَت ظَهرَها لظواهرَ أخرى تُعارِضُها وتدعو إلى التقيض مما فهموه وتشبَّثُوا به من بعض النُّصوص القرآنية.
ونحن لا نستطيعُ بطبيعة الحال أنْ نَعرِض في كلمةِ كهذه تفاصيل هذا الموضوع نشأةً وأسباباً، وتطوُّرًا وعقيدةً، وفقهًا ومضمونًا، ولكن قد يكون من المناسب الحديثُ في إيجازٍ عن عودةِ قضية التكفير، والبحث عن السبب الأعمق الذي مَكًّنَ من عودتها، واستئنافها لنشاطها المدمِّر.
وإنا لنعلم من تاريخ قضية "التكفير" أنَّ مُجتمعاتِنا في مصرَ وفي العالمِ العربيِّ والإسلامي لم تَكُن تَعرِفُ ظُهورَ جماعةٍ تُؤمِن باستحلالِ تكفيرِ المجتمعِ وجاهليَّته وتقول بوجوب المفاصلة الشعورية مع أفراده -قبل عام 67 من القرن الماضي - كما نعلم - وأنَّ جماعةَ التكفير الحديثة وُلِدَتْ في السجون والمُعتَقلات بسببٍ من سياسة العُنف والتنكيل التي عُومِل بها الشبابُ المنتمي إلى الحَركاتِ الإسلاميَّةِ، وأنَّه حِين طُلِب منهم في ذلكم الوقت إعلانُ تأييدِ الحاكِم سارَعَ معظمهم إلى كتابة ورقةِ تأييدٍ. بينما رفَضت قلَّةٌ منهم هذا العرضَ، وعَدوا موقفَ زُمَلائهم هذا تَخاذُلًا في الدِّين، وتَمسَّكوا برفضهم هذا الإعلان، وثبتوا في موقفهم، وما لَبِثُوا أنِ انعزَلُوا في صَلاتِهم عن إخوانهم، وأَعلَنُوا كفرَهم لأنَّهم أيَّدوا حاكِمًا كافِرًا، كما أعلنوا أنَّ المجتمعَ بكلِّ أفرادِه كافر بسببِ مُوالاتِه لحاكِمٍ كافِرٍ، ولا فائدةَ من صَلاة أفراد هذا المُجتمع ولا صِيامِهم، ونادَوْا بأنَّ الخُروج من الكفرِ إنَّما يكون بالانضِمامِ إلى جَماعتِهم ومُبايَعة إمامهم"([1]).
هذه الحادثةُ ربَّما تُمثِّلُ أوَّلَ ظُهورٍ لجماعةِ التكفيرِ في سنة 1967م بعدَ اندِثار فرقةِ الخوارج والفِرَق الباطنيَّة الأخرى التي أصبحت في ذمَّة التاريخ.. وهكذا عادت ظاهرة التكفير الجديدة على أيدي شباب لم يكن يملك من المؤهلات العلمية والثقافية لمعرفة الإسلام إلا الحَماسَ ورُدودَ الأفعالِ الطائشةَ الحادَّةَ، وانتقامَ العاجزِ المُستَضعَفِ من الجَلَّادِ المُستَبِدِّ، فكان التكفيرُ هو الصِّيغةُ المُثلَى والأسرعُ للتَّعبيرِ عن واقعِهم المرير.
ومن هنا لم تكن أحكامُهم أو تصوُّراتُهم نابعةً من فقهٍ سديدٍ أو فكرٍ رشيدٍ، وإنما جاءت انعكاسًا لواقعٍ حافلٍ بالقَهرِ والضُّغوط؛ مما جعَل بعضَ المُدافِعين عن هذه الحَركة يُصوِّرُ التكفيرَ في برنامجهم الحركي على أنَّه في الحقيقةِ "فكر أزمة" وليس منهجًا في الحركةِ الإسلاميَّةِ رغم جُنوح البعض إليه .
هذا، ويذهب آخَرون إلى أنَّ نشأة التكفيرِ في العصر الحديث لم تكُن على أيدي هؤلاء الشباب الذين أعلَنُوا تكفيرَ الحاكم والمُجتَمعِ في سُجونهم في أواسط الستينات من القرن الماضي، وإنَّما نشَأ التكفيرُ عام: 1968م في السجون - أيضًا - على أيدي جماعةٍ أخرى سمَّت نفسَها جماعةَ المسلمين، ثم عُرِفت فيما بعدُ باسمِ: "جماعة التكفير والهجرة"، وتأثَّرت بها جماعاتٌ إسلاميَّةٌ أخرى بعد ذلك.
وأيًّا كان سببُ نشأة التكفيرِيين، فإنَّ الذي لا شَكَّ فيه هو أنَّ السجون وما دارَ فيها من انتهاكاتٍ في ذلك الوقتِ قد دفعت هؤلاء الشباب دفعًا إلى اعتقاداتٍ فاسدةٍ وتصوُّراتٍ شاذَّةٍ، والذي يُراجِع المؤلفات التي كتَبَت في رهق مصادرة الحريات قديمًا وحديثًا، يعثر فيها على كنزٍ من الآراء والأفكار التي لو قُدِّر لها أن تُكتَب في جوِّ الحرية لتَغيَّرت شكلًا ومضمونًا.
غير أنَّ السجون ليست هي السببَ الأوحدَ في عودة التكفير في عَصرِنا هذا، فثمَّة - إلى جوارها فيما أحسبُ - سببٌ آخَر أعمَقُ في التشجيع على التكفيرِ والإغراءِ به واستسهالِ الخطب في شأنه، وهو هذا التُّراثَ الطويلَ المُتراكِم الذي يُمكِن أن نُطلِقَ عليه تراث الغلوِّ والتشدد في الفكر الإسلامي، هذا التراث الذي يُعبِّر منذ نشأته عن انحِرافٍ واضح عن عَقائد الأمَّةِ وجماهيرِها؛ وهو في كل الأحوال تراث ينتسب بصورةٍ أو بأُخرى إلى تراثِ الخوارج الذين حَذَّر منهم النبيُّ ﷺ، ورفضَتْهم جماهيرُ الأمَّةِ الإسلاميَّة قديمًا وحديثًا.
ومن اعتقادي أن مِحوَرَ الخِلاف بين عقيدة التكفيريين وعقيدة سائر أئمَّةِ المسلمين يَكمُن فيما يُسَمَّى في مبحث الإيمانِ والإسلامِ عند عُلَماء العقيدة بعلاقةِ العمَلِ بجوهرِ الإيمان وحقيقتِه.
واسمَحُوا لي -أيُّها السَّادةُ العُلَماءُ الأفاضلُ-أن أُكرِّر على مَسامِعكم كلامًا إن يكن ليس بالجديدِ عليكُم، فإنَّه كثيرًا ما يغيب عن طائفةٍ من الدارسين والراصدين والمُحلِّلين لهذه القضيَّة، ثم هو ما يقتَضِيه المقام الآن. من المعلوم - أيُّها الإخوة - أنَّ مذهبَ أهل السُّنَّةِ والجماعةِ في حقيقةِ الإيمان أنَّه التصديقُ القلبيُّ باللهِ وملائكتِه وكتبِه ورسلِه واليوم الآخَر، إلى آخِر ما ورَد من الأحاديث الصحيحةِ التي تَفسِّرُ مفهومَ الإيمانِ بالاعتقادِ القلبي الجازم، وقد عرفه النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه بقوله: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث"، أمَّا الأعمال من صلاةٍ وصيامٍ وحجٍّ وزكاةٍ، ومن فِعلِ الواجباتِ وتركِ المُحرَّمات؛ فإنَّها بمقتضى التعريف النبوي لا تدخل في حقيقة الإيمانِ، أي: ليست جزءًا مقومًا لماهيته بل هي شرطُ كمالٍ؛ ولها شأن خطير في زيادة الإيمان ونقصه، فهي تصعَدُ بالإيمان إلى أعلى درجاته، كما تَهبِطُ به أيضًا إلى أدنى درجاتِه، ومقتضى ذلك أنَّ زوالَ الأعمال لا يُزِيل الإيمانَ من أصلِه، بل يبقى المؤمنُ مؤمنًا حتى وإنْ قصَّر في الطاعاتِ، أو اقتَرَفَ المعاصي والسيِّئات، ولا يَصِحُّ أنْ يُطلَق عليه لفظُ الكفرِ بحالٍ من الأحوال ما دام مُحتَفِظًا بالاعتقادِ القلبيِّ الذي هو حقيقةُ الإيمان ومَعناه.
هذه النُّقطةُ تحديدًا هي فيصلُ ما بين عقيدةِ أهل السنة والجماعة من الأشاعرة والماتريدية وأهل الحديث، وبين غيرهم ممن يَجعَلُون الأعمالَ داخلةً في حقيقةِ الإيمان، ويُقرِّرون أنَّ مَن ارتكَب كبيرةً فقد زال إيمانُه، وأصبحَ كافرًا خارجًا عن المِلَّة؛ وهنا يفتح الباب على مصراعيه لسفك الدماء وسلب الأموال.
وهذه النُّقطةُ أيضًا هي فيصل التفرقة بين عقيدةِ الجمهورِ، وبين فِرقةِ المُعتزِلة الذين يقولون بأنَّ مرتكب الكبيرة ليس مُؤمِنًا وليس كافِرًا، وإنَّما هو في مَنزِلةٍ بين المَنزِلتَيْن، ويُسَمُّونه الفاسِقَ، في كلامٍٍ طويلٍ رفَضَه عُلَماءُ أهل السُّنَّةِ..
والذي يَهُمُّني بيانُه الآن هو أنَّ بعضًا من أصحاب المذاهب الآن تكوَّن لديه تراث يتشدَّد في مفهوم الإيمان ويَستَمِيت من خِلال التَّدريس والكِتابات والمُؤلَّفات والقنوات الفضائية في أنْ يَغرِس في عُقول الشَّباب أنَّ المذهبَ الصحيح هو المذهبُ الذي يَجعَلُ الإيمان مزيجًا من الاعتقاد والعمل، وأنَّ الاعتقادَ أو التصديق القلبيَّ وحدَه لا يكفي في تحقُّق معنى الإيمان.
وليتَ أصحاب هذه المَذاهبَ المتشدِّدةَ تَوقَّفوا عند طَرْحِ مذهبهم بحسبانه رأيًا من الآراء، أو مذهبًا من المَذاهِب؛ إذن لهانَ الخَطْبُ وسَهُلَ الأمرُ؛ ولكنَّهم راحوا يُروِّجون مذهبَهم هذا على أنَّه الحقُّ الذي لا حَقَّ سِواه، وأنَّ المذهبَ الأشعريَّ مذهبٌ ضالٌّ ومُنحرِفٌ ولا يُعبِّرُ عن حقيقةِ الإسلام في هذا الموضوعِ، يقولون هذا برغم أنَّ أكثر من 90% من جَماهير المسلمين شرقًا وغربًا أشاعرةٌ يُؤمِنون بأنَّ الإيمانَ هو التصديقُ القلبيُّ، وأنَّ الأعمالَ تَزيدُ وتَنقُص من الإيمان، ولكنَّها لا تُزِيله ولا تَنقُضُه من أصلِه.
ونحن إذ ندعو الآن، وفي كلمتنا هذه، إلى عودة الوعي بمذهب الأشاعرة والماتريدية وأهل الحديث في هذه القضية، فإننا ندعو إلى مذهب درجت عليه جماهير الأمة الإسلامية على امتداد تاريخها الطويل وهو المذهب الذي يُضيِّق دائرةَ التكفير، بحيث لا يقع فيها إلَّا مَن يجترئ على الكفر الحقيقي وذلك بجحد ركن من أركان الإيمان أو جحد ما عُلِم من الدِّين بالضرورة.
هذا المذهب الذي تُقرِّرُ قاعدته الذهبية: أنَّه لا يُخرِجُك من الإيمانِ إلَّا جَحدُ ما أدخَلَك فيه-مذهبُ تُعضِّدُه آياتُ القُرآنِ الكريم، وتَشهَدُ له بانفكاك حقيقةِ الإيمانِِ عن حقيقة العمل فقد عطَفَ القرآنُ الكريمُ العمل على الإيمان عطفَ مُغايرةٍ في قولِه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} في مواضعَ عدَّةٍ.
كما أثبتَ في آياتٍ كثيرةٍ بقاءَ الإيمانِ في قلبِ المسلمِ مع اقترافِه المعاصي والذُّنوب: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}{الحجرات: 9}، ومَعلومٌ أنَّ القتلَ من أكبر الكبائرِ، ومع ذلك سَمَّى اللهُ القاتلينَ من الجانبَيْن مُؤمنِين.
وأيضًا: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} {الأنفال: 5-6}، فقد وصَف اللهُ أصحابَ النبيِّ ﷺ بصفاتٍ هي من الكبائر، وهي كراهيةُ الجهادِ معه ﷺ ومُجادلتُهم إيَّاه، رغم تَبيُّن الحقِّ في أذهانِهم، ومع ذلك سمَّاهم القُرآن "فريقًا من المؤمنين".
ومن هذه الشَّواهِدِ القُرآنيَّةِ قولُه تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} {النحل: 106}، ومنها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ *كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}{الصف: 2-3}، ومنها: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ}{التوبة/38}، إلى شَواهدَ أخرى كثيرةٍ تُخاطِب مُرتكِبي المعاصي والذنوب ب{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}وتَصِفُهم بالإيمانِ؛ ممَّا يقطَعُ بيقين أنَّ مرتكب الكبيرة مؤمنٌ ولا يَجوزُ تكفيرُه، اللهمَّ إلَّا إذا ارتَكَب كبيرةَ الشِّرك وأنكر ما عُلِم من الدِّينِ بالضرورةِ، فهذا هو الكافرُ لجحودِه وإنكارِه.
هذا المذهب الأشعريُّ – وهو مذهب الجمهور – هو الذي يُعبِّرُ عن رَجاءِ الناس ورَجاءِ العُصاة والمؤمنين في عَفوِ الله ومغفرتِه ورحمتِه، وهو الذي يَعكِسُ يُسرَ هذا الدِّين وحُنُوَّه على أتباعِه ورأفتَه بهم... على أنَّ الذي يقرأ مقدمة كتاب إمامنا أبي الحسن الأشعريِّ -رضي الله عنه- المعنون ب: مقالات الإسلاميين يَعجَبُ للسَّماحة الإسلاميَّة المُدهِشة التي تَتبدَّى بين جَنَبات هذا الإمامِ الجليل، وذلك حِينَ يجمع المقالات والمذاهب والاختلافاتِ التي حدَثَتْ بين المسلمين ويحشدها تحتَ خَيْمَةِ الإسلام ويُسمِّيها: مقالات الإسلاميين واختلافات المُصلِّين، إستمع إليه في مقدمته وهو يقول: "اختَلفَ الناسُ بعدَ نبيِّهم ﷺ في أشياءَ كثيرةٍ، ضَلَّل فيها بعضُهم بعضًا، وبَرِئَ بعضُهم من بعضٍ، فصاروا فِرَقًا مُتبايِنين، وأحزابًا مُشتَّتِين، إلا أنَّ الإسلامَ يَجمَعُهم ويَشتَمِلُ عليهم"([3]). وهذا نصٌ جدير بأن يضعَه كل عالم نصب عينيه وهو ينظر إلى ما أصاب المسلمين اليوم من فرقة واختلاف.
هذا المذهبُ أسهَمَ بقُوَّةٍ في حَقنِ دِماء المُسلِمين وصِيانةِ أموالهم وأعراضِهم، التي حرَّمها النبيُّ ﷺ في قَواطِعَ صريحةٍ بقوله: "كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ: دمُه ومالُه وعِرضُه ".. " أيُّها الناسُ، إنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم حرامٌ عليكم كحُرمةِ يَوْمِكم هذا"([4])، وهو نفسه المذهبُ ذو النَّظرةِ المُتَوازِنة للإنسان الخَطَّاء بطَبعِه، كما نبَّه إليه النبيُّﷺ في قولِه: "كلُّ ابنِ آدمَ خَطَّاءٌ، وخيرُ الخَطَّائينَ التَّوَّابون"([5]).
وتَعلَمون أيُّها العُلَماءُ الأفاضلُ من النظر في مذهبِ الأشاعرةِ أنَّ قضيَّةَ التكفيرِ لا يَملِكُها أحدٌ، ولا هيئة ولا جماعة ولا تنظيم، وإنما هي تسمية شرعية بحتة، ولها من الضوابط وتوفر الشروط وانتفاء الموانع ما يحصرها في أضيق الدوائر والحدود التي تدرأ بالشبهات، ثم هي منوطة بالقضاء وبأولي الأمر، ولا يُسارِع إليها إلا الجهلةُ من الناسِ كما يقولُ حُجَّةُ الإسلامِ الإمامُ الغزاليُّ، الذي يُقرِّرُ: "إنَّ الخطأ في تَرْكِ كفر ألفِ كافرٍ أهوَنُ من الخطَأ في سَفْكِ مِحجَمةٍ من دَمِ مُسلِمٍ "([6]).
كما يَذهَبُ الإمامُ محمد عبده إلى أنَّ البُعدَ عن التَّكفِير أصلٌ من أصولِ الأحكام في الإسلامِ، ويقرر أنَّه: "إذا صدَر قولٌ من قائلٍ يَحتَمِلُ الكُفرَ من مائةِ وجهٍ، ويَحتَمِلُ الإيمانَ من وجهٍ واحدٍ، حُمِلَ على الإيمانِ، ولا يجوزُ حَملُه على الكُفرِ "([7]).

أيها السادة!
إنَّنا هنا – عَلِم الله - لا نَرمِي إلى إذكاء خِلافٍ بين العُلَماء، ومَعاذَ الله أنْ يَكونَ الأزهرُ مُؤسَّسةَ فُرقَةٍ بين المُسلِمين؛ فقد عاشَ أكثرَ من ألفِ عامٍ – وسيظلُّ – يُدرِّسُ المذاهبَ الفقهيَّةَ على اختلافِها، والمسائلَ الكلاميَّةَ على افتراقِها، والعلومَ الإسلاميَّةَ بمختلف أذواقِها ومَشاربِها، لكن الأزهر قد وجد ضالته – منذُ القِدَمِ – في مذهبِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ واتخذه طَوْقَ نجاةِ للمُسلِمين كلَّما عَضَّتْهُم نوائبُ التَّشرذُمِ وآفاتُ التعصُّبِ المَقِيتِ لمذهبٍ يَراه أصحابُه هو الإسلامَ الذي لا إسلامَ غيرُه.. وسبيلُ الأزهرِ اليومَ هو سبيلُه بالأمسِ: السعيُ الحثيثُ لجمعِ كلمةِ المسلمينَ ووُقوفِهم صَفًّا واحدًا في مَهَبِّ العَواصف والتيَّارات.
أيُّها السَّادةُ الأفاضل!
إنَّ الأزهر الشريف الذي يَرفَعُ رايةَ "جمع الكلمة" بين المسلمين، والذي لا يُفرِّقُ بين مذهبٍ ومذهب في مُقاوَمة مَوْجات الإلحادِ والتَّغرِيبِ والإفسادِ الأخلاقيِّ، لا يَدَّخِر جُهْدًا في مُقاوَمةِ الانحِراف التكفيريِّ الطارِئ، والمرفوض من جَماهير الأُمَّةِ الإسلاميَّة قديمًا وحديثًا، وليس أمامَنا - أيُّها الإخوة - من أجل تَحقِيق هذا الهدَف، إلَّا مُواصَلةُ السَّعي – بصِدقٍ – لجمعِ عُلَماءِ المسلمين على كلمة واحدة، لمواجهة الأخطار التي تُهدِّد الجميع ولتَحقِيق مصالحِ الأُمَّةِ ودرءِ المفاسِد عنها، وبدُون هذا الالتِقاءِ فإنَّ النتائجَ لن تكونَ على النحوِ الذي نَرجُوه لأُمَّتِنا وتَقتَضِيه مَصلحَتُها في هذه الظُّروفِ التي يَمُرُّ بها العالَمُ الآن.

أيُّها الحفلُ الكريم!
إنَّني منذُ اليوم الأوَّل الذي تَحمَّلتُ فيه المسؤوليَّةَ في الأزهرِ الشريف أعلنتُ أنَّ وَحدةَ الأُمَّةِ مِن مَقاصِدِ الشريعةِ الكُليَّة، وأنَّ اجتماعَ كلمةِ عُلَمائِها في القَضايا الحاسِمة وفي مُقدِّمتها –قضيَّةُ التكفيرِ– هو السبيلُ الأَوْحَدُ للحِفاظ على أمنِنا الداخليِّ، ووُجودِنا في العالَمِ، بل الحفاظ على السلامِ العالميِّ كلِّه، وإنَّه لَمِمَّا يُثِيرُ التَّساؤُلَ أنَّ مُبادَرتي المُلحَّة والمُتكرِّرة من أجلِ وَحدةِ الأُمَّةِ، والتفاهُم بين مَذاهِبها والتفاعُل مع عُلَمائِها لم تَجِدْ بَعْدُ آذانًا صاغيةً بالقَدْرِ الذي يَبعَثُ الأمَلَ في قُدرةِ هذه الأُمَّةِ على مُواجَهة تَحدِّيَاتِها. هذا الأمل الذي أسأل الله العلي القدير أن يُحقِّقه على أيديكم بإخلاص عملكم وصدق نواياكم الطيبة.
إنَّ أُمَّتَنا – أيُّها الإخوة – وكما يقررُ دِينُنا الحنيف هي خيرُ الأُمَمِ، وإنَّ مَكانَها اللائقَ بها هو مُقدمة الصُّفوف، وإنَّ الأزهرَ الشريف الذي يَفتَحُ أبوابَه أمامَ الجميعِ مُرحِّبًا ومُقدِّرًا أحوالَ المكان وظرفيَّةَ الزمان ومحترمًا اختلافات العُلَماء - لَيُجددُ دعوته إلى الأُمَّةِ حُكَّامًا ومَحكُومين إلى تَبنِّي المنهجِ الوسَطي، في الفهم والاعتقاد والعمل، والذي دعَا إليه القُرآنُ والسُّنَّةُ؛ حِفاظًا على حاضر الأُمَّةِ ومُستَقبَلِها، وامتثالًا لقولِ الله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.