أظن أن بعض القراء الأعزاء يسألون الآن: من هو الدكتور "كاليجاري" الذي يزين اسمه أعلى هذه السطور؟! وأبشر هؤلاء بأنهم سيفوزون بالإجابة إذا صبروا وصمدوا قليلا حتى الثلث الأخير من هذا المقال.. وإذ أشكرهم مقدما فإنني على ثقة بأن أغلبهم ربما يشاركونني شعورا طاغيا بأن "الجنان" والعبث صارا عنوان حالتنا الراهنة، حيث نهدي أنفسنا أزمات خلف أزمات بلا مقتض ولا داع ولا سبب إلا إلغاء العقل واحتقار الرشد، وربما رغبة مرضية في إيذاء النفس، أو "الانتحار القومي" كما قال الرئيس عبد الفتاح السيسي شخصيا!! ولكي لا أبدو محلقا في التهاويم العمومية، فقد انتقيت حفنة لقطات من المشهد الخرافي لأحدث وآخر أزماتنا العبثية التي انفجرت في وجوهونا فجأة بعدما أعلنت الحكومة أنها أعدت وطبخت (بالليل والدنيا ضلمه) معاهدة رسمت حدودنا البحرية مع الأشقاء في المملكة السعودية، بمقتضاها سوف تنتقل السيادة على جزيرتي تيران وصنافير من مصر إلى المملكة. وقبل أن أذهب إلى تلك "اللقطات"، فإنني أرجو أن يكون القارئ الأريب قد لاحظ كلمة "سوف" التي استعملتها في الفقرة السابقة، فهي تشير إلى حقيقة لا تريد الحكومة (لسبب مجهول) الاعتراف العلني بها، ألا وهي أن الاتفاقية المذكورة ماتزال حتى الساعة مجرد مشروع لم يستوف بعد الشروط الدستورية لكي تتحول إلى واقع مادي وقانوني. فأما عن اللقطات المنتقاة فهي الآتي: ** عصابة "إخوان الشياطين" التي ترفع شعار "طز في مصر واللي جابوا مصر" لبست ثوب الوطنية الشفتشي وراحت تلطم الخدود وتشق الجيوب حزنا على احتمال خروج الجزيرتين من تحت عباءة السيادة المصرية!! ** نائب موقر في برلماننا الموقر جدا، قال صراحة وبمنتهى الفخر والاطمئنان: "لو السعودية عايزة جزيرتين كمان، غير تيران وصنافير، أهلا بيها"، كما تفضل بوصف المحتجين على خروج الجزيرتين من التراب الوطني المصري بأنهم "مجموعة من الخونة والمأجورين"!! ** مساء يوم الخميس الماضي شنت قوات عرمرم من الشرطة حملة "عسكرية" واسعة النطاق على المقاهي ونواصي الشوارع والميادين في القاهرة والجيزة وبعض المدن الأخرى، كان حصادها عشرات من الشباب والفتية الصغار الذين كل مشكلتهم أنهم كذلك (أي شباب وفتية)، وقد زين الشيطان للأستاذ "العبقري الأمني" الذي افتكس هذه الحملة البلهاء، أن من شأنها تخويف وإرعاب كل شاب أو فتى وفتاة من المشاركة في أي تجمع سلمي للتعبير عن رأي معترض على مشروع الاتفاقية!! ** ويوم الاثنين الماضي جرى منذ الصباح الباكر "عسكرة" كل الساحات والطرق الرئيسية في العاصمة ومدن أخرى لمنع التجمعات الاحتجاجية السلمية من المنبع، لكن هذه "العسكرة" والحصار الصارمين كانا يسمحان بمرور وتجمع أعداد لا بأس بها من المواطنين "الغلابة" جدا والبائسين تماما، وقد رأينا هؤلاء وقد أمضوا ساعات اليوم بطوله وهم يرقصون كثيرا ويهتفون قليلا احتفالا بذكرى تحرير سيناء من الاحتلال الصهيوني، بينما بعضهم يحمل علم "المملكة السعودية" ويلوح به في وجوهنا بفخر وحماس، وغيظ أيضا!! ** غير أن دواعي الصدق والاستقامة تفرض الإقرار بأن حفنات من جحافل الفتية والفتيات المعترضين على مشروع الاتفاقية، نجحوا أحيانا في الإفلات من الحصار البوليسي .. كيف ومتى؟! عندما كان الشعور بالخطر يلهمهم أن يرفعوا عقيرتهم بهتاف فيه تحية حارة للرئيس أو المملكة الشقيقة، كلما اقتربت منهم قوة شرطة مدعومة بفرقة من المواطنين البؤساء!! انتهت اللقطات.. وجاء دور الإجابة على سؤال: من هو الدكتور "كاليجاري"؟ أنه الشخصية المحورية التي يدور حولها ويحمل اسمها فيلم ألماني شهير يعتبره أكبر المؤرخين لفن السينما في العالم، واحدا من أجمل وأقوى منتجات هذا الفن، على الرغم من أنه أنتج وعرض في العام 1919 وقت أن كانت الأفلام مازالت صور صامتة لايسمع مشاهدوها شيئا مما يقوله أبطالها. مختصر حكاية فيلم "عيادة الدكتور كاليجاري"، تبدأ بأن "العيادة" هذه ليست كذلك بالضبط، ولكنها مشفى أو بالأحرى مصحة لعلاج الأمراض العقلية والنفسية يديرها الدكتور آنف الذكر، ورويدا رويدا يفهم المشاهد أن كاليجاري حقق شهرة واسعة وشعبية كبيرة بسبب ما شاع عن قدراته الفذه في ممارسة "لعبة" التنويم المغناطيسي للأشخاص عموما وخصوصا هؤلاء النزلاء المساكين في مصحته، ومع تطور أحداث الفيلم نكتشف أن هذا الطبيب مجنون بالهيمنة والتسلط إلى درجة ارتكاب شرور شنيعة، فهو يستخدم لعبته الساحرة في السيطرة على شاب مريض يدعى "سيزار" يحركه كيفما شاء ويوجهه لارتكاب جرائم بشعة تنتهي بموت المسكين سيزار منهكا متعبا.. أما الفيلم فينتهي بالقبض على كاليجاري وتخليص الناس من شروره وجنونه. عزيزي القارئ.. إذا وجدت أي شبه بين مختصر حكاية هذا الفيلم وبين الأجواء الجنونية التي نعيش تحت ظلالها الثقيلة هذه الأيام، فأنت حر ولست أنا المسؤول ولا أقصد بتاتا.