يدور حالياً في الدوائر السياسية والاستراتيجية الأميركية جدل خاص بمستقبل العلاقات الأميركية- السعودية؛ جوهر هذا المستقبل ما بين وجوب تدخل واشنطن لإنقاذ الرياض من أزماتها الداخلية والخارجية المتراكمة والمركبة، وما بين جدوى استمرار الدعم الأميركي للمملكة في وقت لم تعد فيه واشنطن بنفس حاجتها إلى الرياض كما سبق في العقود الماضية، سواء كقاطرة منفذة للسياسات الأميركية في المنطقة العربية، أو بالطبع كمورد أول للنفط بصفتها الدولة الأكثر إنتاجاً ومخزوناً للسلعة الاستراتيجية الهامة، الذي أصبح يكلف الولاياتالمتحدة ثمناً سياسياً باهظاً طيلة العِقديين؛ الجاري والماضي، خاصة وأن الأخيرة تتجه لتدعيم صناعة النفط الصخري والانسحاب التدريجي من منطقة الخليج بعد الاتفاق النووي الإيراني، وتركيز التواجد العسكري في منطقة جنوب المحيط الهادئ لمحاصرة النفوذ الصيني هناك. وفي سياق هذا الجدال الدائر، نشرت وكالة "رويترز" في مدونتها مقالاً لجوش كوهين، المدير السابق للوكالة الأميركية للتنمية الدولية (يو. إس .آيد)، تناول فيه دواعي استمرار دعم الولاياتالمتحدة للسعودية في ظل دأب الأخيرة على سياسة التهور والإفساد في المنطقة وزعزعة الاستقرار فيها وهو ما يتعارض في وجهة نظره مع السياسات الأميركية الحالية الرامية إلى احتواء الفوضى في الشرق الأوسط التي أدت بعد خمسة أعوام إلى تداعيات خطيرة أخرها تنظيم "داعش"، الذي استند في طور نشأته على السياسات الداعمة الموجهة من قِبل المملكة خاصة فيما يتعلق بالأزمة السورية التي أهلته أن يتضخم ليصبح تهديد عالمي بعدما كان قبل سنوات أداة في يد الاستخبارات السعودية، ليتطور الأمر في وجهة نظر الإدارة الأميركية أن السعودية أصبحت حليف عبء ومصدر للمشكلات التي ما أنفكت عن مفاقمتها لكي تبقي المظلة السياسية الأميركية ممتدة عليها كحليف اعتمدت عليه واشنطن كثيراً، بالإضافة إلى حاجة السعودية لأن تخوض الأولى معارك الأخيرة مع خصوم لواشنطن أيضاً، دون الالتفات إلى أولويات السياسة الأميركية. وفيما يلي نص المقال: بعد ما أقدمت عليه السعودية مؤخراً بإعدام رجل الدين الشيعي نمر النمر أصبح الشرق الأوسط مرة أخرى عرضة للانحدار إلى الفوضى الطائفية. حيث أشعل حشد من الغوغاء النار في السفارة السعودية في طهران مما دفع السعودية وعددا من حلفائها من السُنة لقطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران. وردا على ما تجلى للعيان من فوضى تساءلت صحيفة "وول ستريت جورنال" تحت عنوان "من ضيع السعوديين؟" معلنة غضبها من غياب الدعم من جانب الولاياتالمتحدة قد يؤدي إلى الإطاحة بالنظام السعودي، وهو تساؤل استفزازي يُذكر بالانتقادات التي وجه فيها التساؤل "من ضيع الصين؟" للرئيس هاري ترومان بعد استيلاء الشيوعيين على السلطة في الصين عام 1949، لكن هذا هو السؤال الخطأ؛ فبدلا من التساؤل عما إذا كان دعم واشنطن للرياض كافيا يجب على المسؤولين عن رسم السياسات الأمريكية أن يوجهوا لأنفسهم السؤال التالي: هل حان الوقت كي تتخلى الولاياتالمتحدة عن السعودية؟ والدواعي الأخلاقية التي تجعل الولاياتالمتحدة تتساءل عن علاقتها الوثيقة مع السعودية جلية. فالسعودية يحكمها آل سعود في مملكة سلطوية لا تتساهل مع المعارضة كما أن هذا البلد يحتل على الدوام مرتبة "أسوأ الأسوأ" بين الدول في المسح السنوي للحقوق السياسية والمدنية الذي تنشره مؤسسة "فريدم هاوس". وتتبع السعودية المذهب الوهابي المتطرف الذي يتسم بالمغالاة في التشدد بالنسبة للمذهب السني من الإسلام، كما أن الممارسة العلنية لشعائر أي دين بخلاف الإسلام محرمة. وتحكم الشريعة نظامها القانوني وقد أوضحت دراسة أجراها عام 2015 موقع "ميدل ايست آي" الإخباري أن السعودية وتنظيم الدولة الإسلامية يفرضان عقوبات شبه متطابقة مثل بتر الأيدي والرجم بالحجارة لجرائم متماثلة. وتشتهر الحكومة أيضا بالإعدامات العلنية بعد محاكمات تندد بها منظمة العفو الدولية وتصفها بأنها "جائرة بشكل فادح"، وتصف منظمة العفو النظام القضائي السعودي بأنه "مليء بالعيوب". وفي ضوء التباين في قيم الدولتين يعتمد التحالف الأمريكي السعودي اعتمادا كاملا تقريبا على مصالح متداخلة تتعلق بالاقتصاد والأمن الوطني، فلفترة طويلة اعتمدت الولاياتالمتحدة على السعودية كمورد للنفط ومنارة صامدة في وجه الشيوعية ومشتر لكميات ضخمة من السلاح الأمريكي. وفي الوقت نفسه يعتمد السعوديون على الولاياتالمتحدة في حماية أمنهم. ورغم هذه العلاقات القديمة فإن السعودية تلحق الضرر الآن بالمصالح الوطنية الأمريكية بقدر ما تفيدها، فبداية تختلف السعودية والولاياتالمتحدة على السياسة الأمريكية تجاه إيران، وترى السعودية نفسها طرفا في صراع طائفي وجيوسياسي مع إيران من أجل الهيمنة على الشرق الأوسط، وتخشى الرياض أن يؤدي الاتفاق النووي الذي رفع العقوبات المفروضة على إيران مقابل قيام طهران بتقليص بنيتها التحتية النووية إلى تمكين إيران من إتباع سياسة خارجية أكثر إثباتاً للذات في المنطقة، كذلك تخشى الرياض أن تتخلى واشنطن عنها وأن يكون الاتفاق النووي مجرد الخطوة الأولى في عملية قد تؤدي إلى إبدالها بإيران في مركز الحليف الرئيسي للولايات المتحدة في الخليج الفارسي. وعلى النقيض يصف الرئيس باراك أوباما الاتفاق النووي مع إيران بأنه "اتفاق جيد جدا" ويقول إنه "يحقق واحدا من أهم أهدافنا الأمنية"، ورغم أنه لا يوجد مؤشر على أن الولاياتالمتحدة تسعى لإبدال السعودية بإيران فمن المنطقي أن تستكشف واشنطن المجالات الأخرى التي يمكن للمصالح الأمريكيةوالإيرانية أن تتلاقى فيها. ومع استمرار هذا الاستكشاف المتبادل بين الولاياتالمتحدةوإيران يمكننا أن نتوقع تنامي التوترات بين واشنطنوالرياض. ثانيا أعدمت السعودية الشيخ نمر النمر رغم المخاوف التي أبدتها الولاياتالمتحدة من أن يؤدي ذلك إلى الإضرار بالسلام في سوريا. وما زال وضع نهاية للحرب السورية يمثل أولوية عند الولاياتالمتحدة إذ ترجو واشنطن أن تدفع تسوية سورية كل الأطراف للاتحاد في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية. وتؤيد كل من السعودية وإيران طرفا مختلفا في الحرب الأهلية السورية وتتوقف احتمالات السلام بدرجة كبيرة على التعاون بين البلدين. ومع الخلاف الشديد الآن بين الجانبين بسبب إعدام السعودية للنمر تعتقد إدارة أوباما أن التوترات السعودية الإيرانية قد "تنسف" أهداف واشنطن في سوريا. ثالثا وبفضل طفرة النفط الصخري في الولاياتالمتحدة انخفض الاعتماد الأمريكي على النفط السعودي انخفاضا كبيرا. ويوضح تقرير من سيتي بنك أن الولاياتالمتحدة قد تنتج محليا من النفط بحلول عام 2020 ما قد يجعلها مصدرا صافيا الأمر الذي يحررها بالكامل من أي اعتماد على الواردات من الخليج الفارسي. وبخلاف هذا، يعتمد السعوديون على السوق الأمريكية. إذ ينتجون هم وكثيرون من الأعضاء الآخرين في منظمة أوبك ما يسمى بالخام "الكبريتي الثقيل" وشبكة التكرير الأمريكية تمثل أكثر الأسواق إغراء لهذا النوع من النفط، ومع تقليل الواردات الأمريكية يتعين على السعوديين البحث عن أسواق أخرى مثل الصين، ومن سوء حظ الرياض أن الصينيين لا يتنازلون شبرا عندما تكون لهم اليد العليا في المفاوضات وهو ما يمكن للروس أن يؤكدوه، ويدرك السعوديون عواقب تقليل اعتماد الولاياتالمتحدة على النفط المستورد، وللحفاظ على حصتهم من السوق شن السعوديون هجوما على منتجي النفط الصخري الأمريكي على أمل تعطيلهم عن العمل وذلك بإغراق السوق بالنفط السعودي. ويأمل السعوديون أن يدفع ذلك أسعار النفط للتحسن لكن جانبا كبيرا من صناعة النفط الصخري الأمريكية قد يواجه الإفلاس في غضون ذلك، ورغم أن رخص النفط أمر في صالح المستهلكين الأمريكيين فإن سلبياته للاقتصاد الأمريكي قد تفوق ايجابياته عند نقطة معينة. وبالطبع إذا عادت الولاياتالمتحدة إلى الاعتماد بدرجة أكبر على النفط الأجنبي فسيكون السعوديون هم المستفيدون. وأخيراً وأهم من كل ما سبق على الولاياتالمتحدة أن تقبل كون السعودية مساهما رئيسيا في التطرف الإسلامي على مستوى العالم. ويفهم المسئولون عن رسم السياسات في واشنطن ذلك بكل وضوح. ففي برقية مسربة نشرها موقع ويكيليكس قالت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية السابقة – المرشحة الآن لخوض سباق انتخابات الرئاسة "إن المتبرعين في السعودية يشكلون أبرز مصدر لتمويل الجماعات الإرهابية السنية على مستوى العالم"، وفي خطاب ألقاه جوزيف بايدن نائب الرئيس الأمريكي في جامعة هارفارد عام 2014 قال إن السعودية ودولا أخرى تسهم في صعود نجم تنظيم الدولة الإسلامية وأضاف أن "سياسات هؤلاء الحلفاء تنتهي إلى المساعدة في تسليح وتدعيم حلفاء القاعدة والدولة الإسلامية الإرهابية في نهاية الأمر"، وفي توبيخ غير معتاد في ديسمبر الماضي اتهم زيجمار جابرييل نائب المستشارة الألمانية السعوديين بتمويل الإرهاب في الغرب. وقال جابرييل "السعودية تمول المساجد الوهابية في جميع أنحاء العالم. وكثير من الإسلاميين الذين يمثلون خطرا على السلامة العامة يأتون من هذه الطوائف في ألمانيا. وعلينا أن نوضح للسعوديين أن وقت تجاهل الأمر قد انتهى"، وتنفي السعودية تمويل التطرف وفي عام 2014 وصفت اتهامات بدعم الدولة الإسلامية بأنها "مزاعم زائفة" و"افتراء ظالم". وعلاوة على ذلك نشر السفير السعودي لدى المملكة المتحدة في الآونة الأخيرة رسالة تتهم المنتقدين بأنهم يلعبون "لعبة إلقاء اللوم" ووصف الاتهامات بأنها "إهانة لحكومتنا وشعبنا وديننا"، ومع ذلك فجابرييل على حق وقد آن الأوان كي يلقي المسئولون عن رسم السياسات في واشنطن نظرة فاحصة على مستقبل العلاقة الأمريكية السعودية على المدى الطويل.