في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من التلوث الذي طال كل ما يحيط بنا، بيد الفساد والإهمال، ظلت أرض الفيروز "البكر"، وشواطئها وبحيراتها أنقى شواطئ وبحيرات العالم، على رأسها "بحيرة البردويل" التي تقع في شمال سيناء على مساحة 165 ألف فدان، ويبلغ طولها نحو 130 كيلو مترًا بعمق 20 مترًا، وتعتبر أحد أهم مصادر الثروة السمكية، في العالم أجمع؛ لنقائها وخلوها من أي تلوث، كما يصل إنتاجها إلى 5000 طن في السنة من الأسماك عالية القيمة الاقتصادية، مثل أسماك العائلة المرجانية والبوريات، كما تقطن في البحيرة أعداد ضخمة من طائري "الخطاف الصغير ودغبز والقطقاط أبو الرءوس" وتجمعاتهما كبيرة مقارنةً بالمتواجد منهما بالعالم. تحت دعاوى التنمية دون دراسة، وإعلاء المصالح الشخصية على المصلحة العامة، زحف الفساد والإهمال إلى "بحيرة البردويل" ليقتل الأسماك والمخلوقات البحرية ويهدد بفناء أنقى بحيرات العالم، وتشريد أكثر من 10 آلاف أسرة من أبناء سيناء الذين يعيشون على الصيد منها، فضلًا عن إسهاماتها من السمك والجمبري والكابوريا في السوق المصرية، وسط تجاهل المسئولين الاستغاثات من الصيادين والأهالي والجمعيات البيئية والحقوقية بحجة انشغالهم بمحاربة الإرهاب في سيناء. بحيرة عالمية تصنف "بحيرة البردويل" كأنقى البحيرات العالمية، ما ساهم في رفع أسعار منتجاتها بنسبة 25% عن منتجات باقي البحيرات من الأسماك والمخلوقات البحرية، ويقول الدكتور "إسماعيل العيسوي" أستاذ الأحياء المائية: إن "بحيرة البردويل" تمثل أحد الملامح المهمة في الساحل الشمالي لسيناء وتتميز بطولها ومياهها العالية الملوحة، ويفصلها عن البحر المتوسط حاجز رملي قليل الارتفاع أقصى اتساع له كيلو متر واحد وأقل اتساع مائة متر، وتتميز "البردويل" بأنها من البحيرات القليلة التي تحافظ على حدودها، ولم يطرأ عليها أي تغيير جغرافي من بداية القرن العشرين. أكبر مزرعة سمكية طبيعية في مصر "البردويل" من أكبر المزارع السمكية في مصر، فهي ذات عمق يتراوح ما بين نصف المتر وثلاثة أمتار وقاعها رملي، تغطيه بقع من "حشائش الخندق"، أو "الحِنزلاد، أو الحامول" كما أن بها عددًا من الجزر، ويصل إنتاجها من 2500 إلى 5000 طن في السنة من الأسماك عالية القيمة، وتعد ثاني أكبر بحيرات مصر بعد بحيرة المنزلة، وقبل بحيرة "البرلُس". من الاحتلال الإسرائيلي إلى الفساد والإهمال يقول سليم علي، أحد أقدم الصيادين ب"البردويل": إن البحيرة تغيرت كثيرًا مع تغير الأحداث التاريخية التي تمر بالبلاد، أهمها أربع مراحل تاريخية، الأولى قبل قيام الجمهورية المصرية، وكان الصيد فيها قاصرًا على البشوات من العائلة المالكة وكانوا يعتبرونها أهم المصايف، والثانية منذ عام 1952 حتى 1967 وكان متوسط الإنتاج 1460 طنًّا، والفترة الثالثة الاحتلال الإسرائيلي كان متوسط الإنتاج 1530 طنًّا، وتستولي عليها قوات الاحتلال، والرابعة فترة السيادة المصرية وكان متوسط الإنتاج 2240 طنًّا، وظل ارتفاع معدلات الصيد ونزوح الصيادين على البحيرة، واستخدام أساليب مختلفة للحصول على المزيد من الأسماك ساعد فيها دخول الفساد والبحث عن المصلحة الشخصية، وإهمال المسؤولين وجشع التجار، واحتلال البعض شواطئها، مستغلين الانفلات الأمني الذي أعقب ثورة 25 يناير. الملاحات تسبب إنشاء 22 ملاحة على جانبي البحيرة في انخفاض عدد الأسماك والكائنات البحرية بشكل كبير والقضاء على "الزريعة"، ما يهدد بدمار البحيرة تمامًا، وتشريد أكثر من 5 آلاف أسرة سيناوية تعتمد عليها كمصدر رزق. ويقول محمد سليم، البالغ من العمر 45 عامًا: إنه لا يعرف مهنة غير الصيد ورثها عن آبائه وأجداده، مؤكدًا أنه كان يصطاد أنواعًا فاخرة من الأسماك ليطعم أسرته المكونة من 7 أفراد بعد البيع، لكنه انضم إلى العاطلين كعشرات الصيادين بسيناء، مع تراجع أعداد الأسماك منذ إقامة 22 ملاحة إجمالي مساحتها 32 كم مربعًا عام 2012، بينما كانت البلاد تغرق في فوضى ما بعد الثورة. استخدام "الكاوتشوك" في الصيد يقول فراج سالم: إن بعض الصيادين معدومي الضمير في "البردويل" يلقون عوائق مثل "الكاوتشوك" وبقايا خردة المراكب الكبيرة، لصيد أسماك "البوري"، والمعروف عنها تجمعها في الأماكن التي بها فتحات مثل "كاوتشوك السيارات" حيث تعيش بداخلها، ويأتي الصيادون بعد ذلك بأدوات غطس ويصطادون هذه الأسماك، ويؤدي ذلك إلى زيادة نسب التلوث نتيجة العوائق المتهالكة والقديمة التي يلقيها الصيادون، كما يحتكرون الأسماك حيث تتجمع في هذه العوائق التي يعرف أماكنها ملقوها فقط. بينما يقول على نصر، صياد: إن "كلسة" صيد الجمبري، والتي يتم فيها استخدام "الكاوتشوك"، من أخطر طرق الصيد، "عبارة عن شباك معقودة بها كتل من الرصاص" يتمكن الشبك من اصطياد كل ما في البحيرة بما فيها صغار الأسماك والجمبري بكل أحجامه، ما يمثل خطرًا على الثروة السمكية في البحيرة، مشيرًا إلى أن الجمبري يتغذى على "زريعة الدنيس"، ما يهدد بانقراض أسماك "الدنيس" بالبحيرة، والذي يعتبر من أجود أنواع السمك على مستوى العالم، بل أنه أغلى الأنواع. تطوير وهمي رغم اهتمام العديد من المنظمات الدولية والعاملين بالحفاظ على البحيرة، إلَّا أن هذا التطوير يذهب في مهب الريح، ويتساءل الدكتور علي محمود، أحد أبناء سيناء: أين ذهبت أكثر من 50 مليون جنيه صرفتها إحدى المنظمات العالمية لتطوير البحيرة والمحافظة عليها؟ وحتى الآن لا يوجد أي اهتمام أو تطوير بل أن الأمر يزداد سوءًا، مؤكدًا أن هناك مسؤولين مستفيدون من الأوضاع هكذا، ضاربًا مثالًا بالرسوم المفروضة على الصيادين، حيث فرضها مسؤولو هيئة الثروة السمكية لجمع أكبر قدر من الأموال، فهذه الرسوم كانت تقدر 155 قرشًا على نسبة الصيد والآن تم تقليلها إلى 40 قرشًا. "الإطماء" عبارة عن رمل وحجارة يجرفها ماء البحر إلى مدخل "البوغاز"، وبالتالي يتكون ساتر رملي يمنع دخول كميات كبيرة من الأسماك إلى البحيرة، ومن ثم يؤثر ذلك على حجم كميات الأسماك. يؤكد أحمد سعيد، أحد الصيادين، أن معدل "الإطماء" يزيد سنويًّا في البوغاز الرئيس، الذي يغذي بحيرة "البردويل" بالأسماك والماء، ووصل طول "الإطماء" في بعض الأحيان إلى 3 أمتار، في حين أن عمق البحيرة قد يصل إلى خمسة أمتار، ما يعني أنه بعد فترة قصيرة من الوقت قد تصل نسبة "الإطماء" إلى 5 أمتار، ما يعمل على تكوين حاجز رملي بارتفاع البحيرة يمنع دخول الأسماك والماء تمامًا، وعندئذ قد تواجه البحيرة مشكلة عظمى لم تحدث من قبل، وهو خلوها تمامًا من الأسماك وتوقف نشاط الصيد بها تمامًا. وطالب الصيادون بضرورة تحرك إدارة البحيرة، لمنع تكوين هذا "الإطماء" تمامًا، إلَّا أنهم اكتفوا بجلب كراكة متهالكة، غير قادرة على التطهير، ووضعوها عند فتحة "البوغاز" لتنضم إلى المخلفات هناك، وتهدد باختفاء أنقى بحيرة في العالم لتربية الأسماك بطرق طبيعية دون تدخل بشري.