تسعة أشهر مضت على خلع المخلوع كانت كافية لأن تضع مصر حملها الوضاء مستقبلا بحجم التضحيات والدماء والآمال العراض التي تتقزم بفعل فاعل يوما بعد آخر. هذه الأشهر لم تكن كافية للمجلس العسكري،الذراع السياسية للجيش المصري منعا للخلط، لأن يقتنع بأن ما بدأ في 25 يناير ثورة وليس مناورة شعبية نقلته من مقاعد الفرجة إلى ميدان المشاركة التي أغوته فبدأ يخطط لإحكام القبضة. وما فعله المجلس العسكري يقتضي الآن، ونحن على مشارف استحقاق انتخابي يفترض أن يمثل منعطفا، التصريح بما لمح به كثيرون قبلا، وهو عدم إيمان الجنرالات بثورية ما جرى. وهذا ما تبدى فيما يمكن تسميته بفارق السرعات في التفكير والقرار الذي تجلي بين الخطوات العسكرية وتلك الروح الثورية التي دهست في أكثر من موقف وارتضت اعتذارا بحجة أن الرصيد يسمح. أمام الله ثم الشعب والتاريخ، يتحمل المجلس العسكري تبعات هذا الوضع الملتبس الذي تعيشه مصر ومعاناتها من مخاض عسير يكاد يمزق أوصال المولود وأمه حتى يبدأ حياته شائها يتبرأ منه أقرب محبيه. ولن يغفر للجنرالات ما رسخ في أذهان كثيرة عن حمايتهم الثورة، هذا الأمر الذي يحتاج إلى مراجعة، لأن “الجيش حمى الثورة” مقولة، إن لم تكن ملتبسة، فهي، في أقل التقديرات، مجتزأة تكملتها ” واحتمى بها”. ورغم ذلك، فإن قبولنا الترويج الأسطوري لما يعرف بحماية الجيش للثورة، لا يعني أن يتحول الحامي إلى شيء آخر يمكن أن نختلف في توصيفه ، لكنه في كل الأحوال خرج عن نطاق الحماية. هذه الحماية كانت تستوجب تطويق مسيرة الثورة بما يضمن عدم الاعتداء عليها فترتد إلى حيث بدأت، لكن المجلس العسكري منذ أن انتهت أيام العسل مع الشباب تركهم في العراء عزلا إلا من أحلامهم في مواجهة نظام سقط رأسه وعاد جسده للنشاط المخرب المنتقم. الأنكى أن المجلس نفسه أصبح جبهة للانقضاض على الثورة، إن لم يكن بتحوله إلى خصم لبعض أجنحتها يكيل الاتهامات ويهدد، فبروتينيته في التعامل مع الجبهات المضادة ، وهو أمر لا يتفق وموجبات الحماية. لجأ المجلس إلى ما اعتبره الإجراءات الطبيعية مع كل ملفات النظام السابق متعللا برغبته في أن يسود القانون، لكنه مع كل ما يخص صناع الحلم كان استثنائيا.. صبر الجيش طويلا على مبارك ثم على بقاياه العفنة، لكنه كان أسرع إلى “الانقلاب” على حلم صنعته ثورة يناير ووضع في طريقه الألغام حتى لا يتحول إلى واقع. ترك الحارس فرصة لاتهامه بالطمع فيما يحرسه،وأغلظ أيمانه لا تقنع أحدا بأنه متجرد من الهوى، إن لم يكن في الغنيمة كلها، ففي ألا تذهب بعيدا عن أيدي من كانت معهم ولو تغيرت الوجوه و الأسماء. وفي سبيل ذلك، تدخل مصر استحقاقها التاريخي بألغام تهدده هو نفسه إذا لم يفلح السعي إلى قطع الطرق الموصلة إليه. الانتخابات وحدها في تراثنا فعل عنيف في الظروف الاعتيادية وفي عز سطوة الأمن، فماذا ستكون في ظرفنا الراهن والكل أعلم بتفصيلاته؟. لعب المجلس العسكري على الفرقة ليسود، فما بقي في مصر فريقان متفقان. ولم يول الملف الأمن ما يستحق من اهتمام باعتباره النواة فاستمرأت الشرطة،إلا باستثناءات، الغياب حتى صار أخذ الحق بالقوة أقرب إلى أي شخص من حبل الوريد. قرى تحاصر بعضها بعضا، وأخرى ترفع السلاح لأن سيارة قتلت جاموسة أو “توك توك” احتك بسيارة. وخطف وقتل وهروب وتوعد بالثأر. أحكام من جهة قضائية واحدة تحيرنا في أمر الفلول الذين كانت تباطؤ المجلس العسكري على قلوبهم بردا وسلاما فزادت أطماعهم حتى صاروا على استعداد لاحتلال محافظات والتلويح بعزل الصعيد من أجل تحقيقها، بينما كان المجلس عجولا واستثنائيا في تعامله مع مسيرات ومدونات إلى حد القتل، أو الإهمال حتى تسلل من قتل. مبادئ فوق دستورية ووثائق تظهر ثم تتوارى ثم تعاود الظهور وفي كل مرة تتسع رقعة التحزب والتشرذم . حتى أمر المصريين في الخارج لم يحسم حتى الساعة ، رغم أنه كان واحدا من أول الملفات التي فتحت بعد 25 يناير. على هذه الأرضية المفخخة نساق إلى الانتخابات التي حسمت تيارات نتائجها من الآن وبدأت تخيط ملابس النيابة والتوزير، بل والرئاسة، رغم أن حظها ربما يكون مثل حظ الزمالك ينزل الملعب محتفلا ويغادره كله حسرات. كل لغم زرعه المجلس العسكري في طريق الوليد المصري يكفي وحده لنسف قواعد كثيرة ، فما العمل إذا اجتمعت علينا الألغام؟. كل لغم إذا اكتملت الانتخابات يمكن أن يعريها من شرعيتها إذا لم ترض أصحاب الهوى، فنعود إلى نقطة الصفر. هل الرهان على أن نبقى نجر أكياس الرمل فلا نصل ِإلى مبتغانا، وساعتها نكون أمام خيارين: إما أن يبقى النظام الجديد القديم متسيدا، أو نسلم الراية إلى يد عسكرية. كلا الخيارين مر، وأكثر مرارة من سنوات مبارك، واليأس سيكون بتبعاته الخطيرة أكبر مما يتصور أحد. يا إخواننا في المجلس العسكري، ارفعوا أيديكم عن الوليد. دعوه يستقبل الدنيا في أجواء طبيعية ، إن لم يكن خوفا على سيرتكم حين يكتبها التاريخ ، أو خشية من الله حين تقفون أمامه مجردين من رتبكم وألقابكم، فمن أجل مصر، وهي، والله، تستحق وغضبتها لا تبقي ولا تذر.