تسمرت عيونى وأنا أطالع صفحة الصديقة الرقيقة د. دينا الخواجة، وما كتبته منذ آيام قليلة، فى سياق رد واحد على ما تقوم به من نشاطات وتعليقات، خاصة "القائمة البيضاء"، ومفاد هذا التعليق: "هو انتى قاعدة فى باريس.. وعمالة تقومى بالتنظير"!!. وما هالنى، وكثيرون غيرى، بقية ما كتبته من أنها قامت بأخذ كمية كبيرة من الأدوية بقصد التخلص من حياتها، الأمر الذى ترتب عليه نقلها لأحد المستشفيات فى باريس فى حالة خطرة للغاية، ووضعها فى غرفة العناية المركزة. ساعات مرت طويلة وكئيبة، لعب بعد المكان دوره فى زيادة حالة التوتر والقلق إلى أن اجتازت مرحلة الخطر، شريطة البقاء للمتابعة والملاحظة حتى تنتهى هذه الأزمة بسلام، وهو ما كان. وسبق لى أن كتبت على هذا الموقع حول غياب ثقافة الاختلاف فى الرأى، دون تجريح أو تخوين أو تشويه. وأقدر مشاعر الاحباط واليأس لدى د. دينا، عندما يتعمد أحد أن يختزل ما تقوم به، وتخصص له الوقت والجهد والمال، بتلك العبارة القاسية والمحزنة، لكنى لا اتفق معها على رد فعلها، فليس هناك أى شئ يستحق أن نقرر انهاء حياتنا قبل الموعد المحتوم الذى لا نملك حياله أى رد. والحقيقة انى أعرف د. دينا منذ كانت طالبة بالسنة النهائية بقسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد، ولم تطرح نفسها فى أى وقت "مناضلة" من أى اتجاه، فى وقت كانت الجامعة تموج بتيارات عده. والمؤكد انها كانت ترغب فى مواصلة مشوارها العلمى والأكاديمى، وتحقق لها ما أرادت، وعملت بالتدريس بالكلية، ثم مواصلة المشوار فى باريس. وطوال كل هذه الرحلة، لم تكن أبداً راغبة فى أن تكون تحت دائرة الضوء والنجومية، أو راغبة ومتطلعة لشهرة أو منصب، على غرار بقية أساتذة العلوم السياسية، وحتى الذين يقلون عنها علماً ومعرفة أكاديمية . جل ما تفرغت له هو تبنى مجموعة من شباب الباحثين الواعدين، وتشجيعهم واتاحة فرصة العمل معها فيما تشرف عليه من ابحاث وكتب تعنى بالتغيير والاصلاح السياسى فى المنطقة، ودور الحركات الاحتجاجية الجديدة وغيرها . وهى فى كل ذلك تسعى لأن تقدم نموذجاً يحتذى به لدور المثقف المهموم بقيايا وطنه وأمته، سواء كان داخلها أو خارجها، سواء بالممارسة الشخصية ، أو السعى لخلق تيار معرفى أو مؤسسى يقوم بذلك. والأهم، أنها قدمت مثالاً رائعاً لما يتوجب أن تكون عليه علاقة الاستاذ بطلابه، سواء فى فترة وجودها بالكلية، أو عندما سافرت لعاصمة النور، حيث تحرص على اللقاء مع من تتيح له الظروف زيارة باريس، أو على مقربة منها، تستمع اليهم عن حقيقة الأحوال ورؤيتهم للتحديات التى تعترض مسيرة التغيير والاصلاح. وانا على المستوى الشخصى أعرف قيمة هذه المسألة حيث أتاح لى أستاذى وابى الروحى المرحوم د . ابراهيم صقر، هذه التجربة الجميلة والمثمرة والتى كان لها اكبر الأثر فى مواقفى السياسية، وعلمنى أن الانسان اختيار: إما أن يدفع الثمن، أو يقبض الثمن . وكان رحمة الله عليه، نموذجاً لمن يدفع الثمن عبر مسيرته الطويلة، وبسبب مواقفه لم يتقلد، وهو شيخ أساتذه العلوم السياسية، على أقل تقدير: "رئاسة القسم" أو "عمادة الكلية" ولم يندم لحظة على ذلك . وفى السياق الأشمل، قد تتفق، أو تختلف مع غيرك، فى مواقفه، وكتاباته، ولكن ليس من حقك، ببساطة واستخفاف، أن تمارس عليه نوعاً من عملية "اغتيال " أدبى أو معنوى، ربما يكون من نتيجتها أن يقرر انهاء حياته، بفعل الاحباط وعدم التقدير. وحالياً، تموج الساحة بالكثير من النماذج الصارخة لمن يتعمدون أختزال مسيرة عطاء متواصلة، وتاريخ نضالى ممتد، لمجرد موقف أو اختيار قد لا يتوافق مع تفضيلات أخرين: والمناضلة "شاهندة مقلد" على سبيل المثال، لا الحصر. وقد علمتنى خبرة سنوات الحياة حقيقة أن الخلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية. وخلاصة القول، ان مثل هذا النقد السخيف كان من الممكن، لا قدر الله، ان يتسبب فى غياب اكاديمية نابغة، حاولت فى حدود ما يتوافر لها أن تتفاعل وتشارك فى هموم قضايا وطنها وأمتها. ولا أملك سوى القول: حمداً لله على سلامتك د. دينا، أطال الله فى عمرك ومتعك بموفور الصحة والعافية، لتستمرى فى مواصلة دورك الهام فى التنوير، دون التفاتة لهولاء الذين يستظرفون الى حد الرخامة، ويكفيكى حب أسرتك الجميلة وتلاميذك وكل الأصدقاء، وانا منهم، بعد كل هذه المحنة الصعبة.