حين نقف مع سوريا، فاننا لا نقف مع الآخر، بل مع أنفسنا.. وحين نعتنق وجهات نظرها، فنحن لا نتبنى رأي الغير، بل نعانق قناعاتنا وآراءنا ورؤانا. سوريا ليست خارجنا، ولا منفصلة عنا، وإنما هي حاضرة في قلوبنا، وراسخة في أعماقنا، وماثلة في عقولنا، وقاطنة في دواخلنا، ومتوحدة مع أنواتنا. لا افتراق عن سوريا، لأن في ذلك افتراقاً عن حياتنا، ولا انكفاء عن الالتحام والاندغام بها، لأن في ذلك اغتراباً عن ذواتنا، وانسحاباً من ماهياتنا، وانفصاماً عن فلذات أرواحنا. لا مباعدة بيننا وبين سوريا تحت أي ظرف، ورغم أي اختلاف.. ذلك لأن عشقنا لها وهيامنا بها ينتصران دائماً وأبداً على كل الخلافات، ويمحوان بممحاة عسجدية كل التعارضات والتناقضات، ويغسلان بماء الورد كل ما يعلق بالمشاعر والأحاسيس من شوائب ورواسب ومعاتبات. حب سوريا فرض عين، وفرض قلب، وفرض عشق، وفرض عروبة على كل أبناء الطيف القومي، مهما اختلفت الوانهم ومذاهبهم ومشاربهم.. فلا مجال – وقت الشدة – للحسابات الصغيرة، والحزازات القديمة، والمنافسات الحزبية، والخواطر الملوثة بمحاليل الشماتة والتشفي. من لا يعرف الوفاء لسوريا، والاصطفاف مع قيادتها هذا الأوان، لا يعرف معنى الوفاء لشرفه، والالتزام بوطنيته، والاحترام لعروبته، والاصطفاف مع ضميره.. فسوريا لم تكن يوماً ملكاً لأبنائها فقط، بل ظلت على الدوام ملكاً للأمة جمعاء، وحضناً دافئاً يؤوي سائر العرب دون استثناء، وسيفاً مشرعاً بالحق وبيرقاً يخفق بأمجاد الامويين. لا عنوان ولا ربان لسوريا اليوم، وسوريا الغد، سوى بشار الأسد، فقد أثبت هذا القائد القادم من أساطير البطولات الإغريقية، انه هدية سماوية نفيسة لشعب سوريا، ومصادفة تاريخية عبقرية لإنقاذ البلاد والعباد من مخالب الإرهابيين، ومصائب الوهابيين، وعصائب الخونة والمرتزقة الذين انتحلوا لأنفسهم صفة الثوار والمعارضين، مع أنهم يرضعون من أنابيب النفط، ويخضعون لأوامر أقذر المحافل الاستخبارية، ويحفظون عن ظهر قلب وصايا برنارد ليفي، وداود اوغلو، وعبد الحليم خدام. للشجاعة سحرها على الناس، ودورها عند الشدائد، وعطرها في جنبات التاريخ.. وقد برهن بشار الأسد أنه أستاذ في فن الشجاعة، وفلسفة القيادة والارادة، وعلوم العزيمة والشكيمة والتحدي.. فقد أرسل أعصابه لتتفولذ في أتون المعارك، واطلق روحه المعنوية لتحلق عالياً فوق ذرى قاسيون، وزرع ساقيه في تراب الوطن وحدائق الصبر والثبات والصمود، واجتاز عتبة الاستشهاد وبرزخ المخاطرة والفداء وهو لا يزال على قيد الحياة، واتاح لعمداء وخبراء علم النفس الشروع في تأسيس فرع جديد في مضمار السيكولوجيا باسم "علم النفس البطولي"، وسمح لقافلة الخوارق والمعجزات والمستحيلات ان تقتدي به، وتترسم خطاه، وتنتسب الى صفوف اكاديميته. تحت عنوان "المجد تسعد بحوار ساعتين مع الرئيس الشجاع بشار الاسد"، كتبنا في عدد "المجد" رقم 352 الصادر بتاريخ 2001/3/19 عقب اول مقابلة لنا مع هذا القائد الذي لم يكن قد مضى على تسلمه مقاليد الحكم غير بضعة اشهر، ما يلي حرفياً.. "اما القراءة العميقة والدقيقة لشخصية هذا القائد الواعد، فتكشف بجلاء عن شجاعة جوانية خارقة تستتر خلف هذا المظهر الهادئ والوديع والمهذب.. وانني لعلى كامل اليقين ان معارك هذا القائد الشجاع ستكون من نوع مختلف، وان قدراته على الصراع سوف تفوق كل تصور.. فكم تحدث، خلال المقابلة، عن النضال والمناضلين، وكم كان يصغي باهتمام وانا استشهد احياناً بشيء من بطولات جمال عبد الناصر ومنازلاته". يومذاك ارتأت قيادة الجيش السوري شراء خمسة آلاف نسخة من "المجد"، مما اضطرنا الى اصدار طبعة ثانية بعد ان كانت قد نفدت الطبعة الاولى.. في حين قال لنا الضرغام الغائب، والصديق الصدوق، العماد المرحوم آصف شوكت، ان هذه الاطلالة الذكية على شخصية الرئيس بشار قد اعادتني بالذاكرة الى يوم رحيل الرئيس الخالد حافظ الاسد، حيث كان الجميع في حالة جزع وارتباك، باستثناء الدكتور بشار الذي كان شديد التماسك، وموفور الصلابة والتجلد والهدوء النفسي والسيطرة على كل ابعاد هذا المشهد المفجع وتداعياته. وعليه.. فها هي الايام الصعبة والتحديات الجسيمة والوقائع الحالكة تأتي مزكّية لما كتبنا، ومصدّقة لما تنبأنا، ومؤيدة لما توقعنا في وقت مبكر، ومؤكدة ان معشر الاعداء والعملاء قد اخطأوا في قراءة هذا الرجل المقدام، واوقعوا انفسهم في حبائل الخطل والخلل والزلل، حين تصوروه حمامة لا صقراً، وتخيلوه نعامة لا نمراً، وظنوه فريسة لا فارساً، وحسبوا – خزاهم الله – انه سوف يلوذ بالفرار، ويرفع الراية البيضاء، ويترك لنظام الحكم أن يتأخون، ولشعب سوريا ان يتوهبن، ولجيش ميسلون ان يتعثمن، بمجرد ان يقعقعوا له بالسلاح، ويجعجعوا عليه في الفضائيات، ويطلقوا في وجهه عدداً من المظاهرات المأجورة والشعارات. ألا ساء ما فكروا ودبروا، وبئس ما يتوهمون ويشترطون.. فها هو "واوي صحراوي" أجرب يتهم نفسه بقيادة ائتلاف المعارضة، رغم اننا ما سبق ان سمعنا له في صفوف المعارضة السورية اسماً أو صوتاً، يشترط لحضور مؤتمر جنيف الثاني، أن يبادر بشار الأسد الى التنازل فوراً عن الحكم، وتسليم مفاتيح الدولة سريعاً الى سوائب المعارضين، ومغادرة دمشق على عجل الى حيث يختار من المنافي والمهاجر والمغتربات. فهل هذه شروط عاقل أم مجنون؟ ومطالب معارض راشد ام حشاش مأفون ؟؟ واملاءات فاتح الاندلس ام ارنب اجرب موبوء بايدز الوهابية؟؟ لو كانت جحافل هذا الصعلوك الشارد والفاسد تدرك ردهات القصر الجمهوري، ولو كان بشار الأسد من طينة مبارك ومرسي وبن علي، ولو كان الشعب السوري يهلل صباح مساء لفصائل المعارضة المطهرة، ولو كانت هذه الفصائل منضدة وموحدة على قلب رجل واحد، ولو كان الرأي العام العالمي يصطف بأسره معها ويلتف بكامله من حولها.. لكان من حق هذا الواوي الصحراوي ان يتنمر ويتمرجل ويملي شروطاً، ويتمادى في استخدام "لا" الناهية و"لام" الامر.. ولكن ماذا نقول لكائن مخاطي خرج من سعال الأمير بندر وتقيؤاته؟؟ هل نجادله بالتي هي احسن وافصح، أم بالتي هي اسوأ واقبح ؟؟ ألم يدرك هذا المأفون الملعون ان صمود بشار الأسد وبسالته وحنكته ورباطة جأشه لما يقارب ثلاثة اعوام مريرة وخطيرة، قد حرك الدنيا، وأثار دهشة التاريخ، وغيّر موازين العالم وقلب معادلاته وحساباته، فاتاح لروسيا ان تتقدم ولامريكا ان تتقهقر، ولايران ان تنتصر ولتركيا ان تنكسر، ولمصر ان تتخلص من قيادتها الإخوانية، ولقطر أن تتطهر من رجس "الحمدين" الأمير والوزير.. والبقية السعودية على الطريق. لو كان المقام يتسع للتحليل والتعليل والتبحر السياسي والاستراتيجي، لكان بمستطاعنا تقديم مطالعة مطولة او مرافعة مفصلة حول جملة من المهارات والتكتيكات والتنويعات والمبادرات وحتى المجازفات الخطرة التي اجترحها بشار الاسد على مدى ثلاث سنوات، ليس فقط لتعزيز تحالفاته الاقليمية والدولية، ولحفظ نظامه من التشقق والسقوط، ولصون بلاده من التفكك والضياع.. بل ايضاً لوضع معارضيه واعدائه، منذ البداية، في الجانب الخاسر من معادلة الصراع، ودفعهم لكي يتولوا بانفسهم فضح ارتباطاتهم، واستنزاف قدراتهم، وتسعير خلافاتهم، والمسارعة الى فرض غرائب فتاواهم ومعتقداتهم داخل مناطق نفوذهم، وهو ما ادى الى عزلهم وطنياً، وتلاشي البيئة الحاضنة لهم شعبياً واجتماعياً. والله لو ان نصف هذا الطحن الدامي الذي وقع في سوريا على مدى ثلاث سنوات عجاف، قد حدث في اسرائيل، لما بقي فيها جيش يزعم انه لا يُقهر، ولا ظل فيها شعب يعربد ورئيس وزراء يرغي ويزبد، ولا دامت فيها حركة صناعية وزراعية وسياحية تستحق الذكر، ولا نفعتها ترسانتها النووية ومنعتها من التردي والانهيار، فقد سبق للاتحاد السوفياتي ان خرّ جثة هامدة فيما كان يمتلك اكبر مخزون نووي عالمي. كل الشكر والتقدير للقيادة الروسية الملهمة، ليس فقط لانها وقفت مع سوريا بحزم وثبات وبرهنت انها حليف شريف يمكن الاعتماد عليه والركون اليه، بل لانها ادركت ايضاً بذهنية استراتيجية ان انتصارها لسوريا يعني انتصارها لذاتها ومصالحها ومطامحها الحالية والمستقبلية، فهي لا تزال تذكر كيف خرجت من المولد الليبي بلا حمص، وكيف تعمد دهاقنة الناتو آنذاك ابعادها وتهميش دورها وتجاهل مصالحها ومستحقاتها. كل العرفان والامتنان للقيادة الايرانية الاصيلة والنبيلة، لانها آزرت سوريا سياسياً واقتصادياً بمنتهى الاخاء والسخاء والوفاء، واعتبرت دمشق بمثابة خط الدفاع الاول عن ايران وحزب الله وقوى الممانعة والمقاومة كافة.. فلو تهاوى النظام السوري شأن ما وقع في تونس ومصر وليبيا، لما تردد امثال الغلام سعد الحريري الذي سبق له ان خلع جاكيته متوعداً ومتحدياً، في التجييش والتحشيد لضرب حزب الله في عقر ضاحيته الجنوبية، وتعطيل كامل منظوماته الصاروخية التي ترعب اسرائيل، وتشكل اكبر رادع لها ولباقي حلفائها عن مهاجمة ايران وتدمير منشآتها النووية والنفطية والعسكرية. ليت جهابذة صنع القرار الأردني يستشرفون ما وراء اكمة الواقع الراهن، ويلتزمون نهج التوازن والبقاء داخل المنطقة الرمادية والحالة الحيادية.. فلا يفقدون رشدهم في رُبع الساعة الاخير، ولا يتوهمون ان بندر الحبشي هو الوجه الآخر لعنتر العبسي، ولا يمتثلون لحماقات السعودية التي سبق ان ورطت باكستان في جحيم افغانستان، ولا يتجاهلون تهيب رئيس اقوى دولة عالمية من السقوط في المصيدة السورية، ورفض مجلس العموم البريطاني لاي تدخل عسكري هناك، وخيبة اردوغان التعيس الذي خرج من الامتحان والمعمعان "صفر اليدين" وليس "صفر مشاكل". طال المقال وتجاوز المساحة المقررة، ولكن ما حيلتنا والفؤاد ما زال طافحاً بالشوق دون نقصان، والوجد ما زال محتدماً في الخاطر بغير خفوت، والقلم ما زال يجري على الورق بلا انقطاع.. فدمشق ليست ام المدائن وعاصمة بلاد الشام فحسب، بل ام احرار العرب اجمعين، وعاصمة القلوب العربية من المحيط الى الخليج، وقسطاس العدل والفصل بين أحباب بردى وأصحاب الفيل، وقلعة الأسد القابض على الجمر والرابض في خندق الاباء والكبرياء والاحتساب.. وان مع العسر يسراً، ان مع العسر يسراً. رئيس تحرير "المجد" الأردنية