أين أنتِ يا "زرقاءُ اليمامة"، إننى أرى ظلماتٍ من خلف هذه الأشجار، أنذرتُ قومي، فقالوا خَرِفْتَ ورَقّ عَقْلُك. ها أنا تكحّلتُ بالإِثمِد حتى يقوى بصري، كي أرى ما شاهدتيه، وأخبرتِى به قومَكِ فلم يصدقوكِ.. وعلى شُرفتى المتهالكة أنتظرك، إلا أن المشهد القبيح يفزعنى وموجات الدخان توقف أنفاسي.. تحجب عني الرؤية بين الحين والحين. فنحن كما جئنا لهذه الدنيا نرحل.. ندور فى فلك الأماني.. ننشدُ المجد على جثث المكلومين.. نقفُ على ضفاف نهر عكّرتُه أطماعُنا الزائفة.. وها نحن نبحر بدفة مكسورة، حطّمتها أطماعُ الكبار فى مضمار السباق. الحقُّ يا صديقتى بطولةٌ.. لكنها بطولةٌ نمارسها دوما لنظل صادقين وشرفاء أمام الناس، وتمارس تلك البطولة، اليوم، ثُلةُ من الحمقى، يغازلون الناسَ بالوهْم. وها نحن نصفق، وعلى الباغى يدور "القفص"، ومازلنا نُصِّفقُ.. فهل يتعظ قائد الدفة المكسورة، أم يظل على أعناقنا يصفق؟ إننا ننشدُ صفاءَ عينيكِ يا زرقاء اليمامة.. إننا نحلُمُ بنورٍ يغمرُ النهرَ فيوقِظُ هذه الضمائرَ من تلك "الغيامة" وما دمنا نبتغى سلطة، فلا كرسي بلا خيْبة. أخبريهم يا "زرقاءُ" فلم نرَ فى المهد إلا ظلمًا، ولم نرَ فى اللحد إلا زُورًا وبهتانًا، ولم يبقَ فى العمر إلا رذاذ الحُلم، وشظايا تلك البندقية، فلن تفلحَ ألاعيبُ السُّكَارَى فى هدم ما نبنى معًا. إنها الأيامُ يا "زرقاءُ" تمضى، ولا نمض وأنتظرك، فلا تأتين، سأُخبرُ أبنائي أنك يومًا قد تعودين، فكررىِ على مسامعِهم ما كان من حديثِ أبيهم، ولكن ذكِّريهمْ أن يبنوا لهم وطنًا أبيًا، يمقُتُ الظلمَ وينصرُ الضعيفَ.. وزرقاءُ اليمامة لمن لا يعرفها امرأة عربية من أهل اليمامة. دعيت بالزرقاء، لزرقة عينيها، وقد ضربوا بها المثل في حدة البصر، وزعموا أنها كانت ترى الجيش من مسيرة ثلاثة أيام. وفي (الأغاني) لأبي الفرج الإصفهاني، أن قومًا من العرب غزوا اليمامة، فلما اقتربوا من مسافة نظرها، خافوا أن تكتشف "الزرقاء" أمرهم، فأجمعوا على أن يقتلعوا شجرات تستركل شجرة منها الفارسَ إذا حملها، فأشرفت كما كانت تفعل، فقال قومها: "ما ترين يا زرقاء؟"فقالت: "أرى شجرًا يسير!" فقالوا: "كذبت أوكذبتك عينك" واستهانوا بقولها، فلما أصبحوا صبّحّهم القوم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأخذواالزرقاء فقلعوا عينيها فماتت بعد أيام.