لكل شعب في كل زمان ومكان خرافاته، ومنها ما يتطور ليصبح أسطورة، خاصة إذا ما تبناها رجال الدين وحولوها لعقيدة ومارسوا الطقوس والشعائر حولها، ومخطئ من يظن أن زمان الخرافات والأساطير قد ولّى وانقضى عهده، فالخرافة والأسطورة لصيقتان بوعي الإنسان ومعتقداته وبالتالي سلوكه حتى في القرن الواحد والعشرين. ومن أهم وظائف الخرافة والأسطورة الآن في مصر هذه التي يستخدمها النظام الحاكم الذي لم يسقط بعد لمحاربة الثورة، بعد أن ثبت له أن العنف بعد 28 يناير و2 فبراير لا يقهر شعوب، سواء أكان العنف مرتديا ثياب شرطة أو بلطجة أو حتى جيش، وإن كان العنف يمكنه أن يحسم أمر تجمع أو مظاهرة تضم العشرات، فإن المئات يصبحون ألاف في ساعات قليلة وهذا ما حدث بالتجربة في أحداث مسرح البالون. لذلك فطن النظام مبكرًا ربما أكثر من غيره في ليبيا وسوريا واليمن أن عليه أن يستغل ويستخدم ثمار الجهل والتخلف التي سقاها ورعاها ونماها في المدارس والمعاهد والجامعات والجوامع والكنائس وطبعا وبكثافة أكبر في البيوت عبر ما يسمى خطأ بالإعلام، وهذا الاستغلال تجلى في خلق خرافات سهلة الهضم يسيرة الترديد على ألسنة الببغاوات سواء في ذلك أن يكون الببغاء حسن النية أو سيئها، يتقاضى أجرًا على ذلك أم لا، ففي الحالات جميعها يردد المرددون الخرافات بحماس وجهل وإيمان واستمتاع. ولا مجال للمجاملة والمبالغة والمغالطة بزعم أن المصريين جميعهم ثوار أحرار شرفاء واعين، فمن كان ولا يزال يحكمنا إذن؟ من يسرقنا ويقهرنا ويزور انتخاباتنا ويتاجر بديننا ... الخ فكلهم مصريين الجنسية مسلمين ومسيحيين الديانة في الغالب، ولا أقصد النظام ممثلا في رؤوسه وأعوانه الكبار فقط بل الملايين من المرتشين والمتحرشين واللصوص ومن تشهد عليهم تسجيلات التزوير وهم الموظفين الصغار الذين يقومون مباشرة بمهمة تسويد البطاقات بآلية وضمير ميت رغم علامات الصلاة في جبينهم ورغم الحجاب والخِمار، ولو كلمتهم في غير هذا السياق لنصحوا وأمروا بمعروف ونهوا عن منكر دون أن تهتز في رأس أيهم شعرة. صانعوا الخرافات ومروجوها ومبتلعوها ومرددوها جميعهم مصريين، ولا أنفي طبعا الإسهامات غير العادية ولا البسيطة من أمريكا وإسرائيل والسعودية ودول الخليج، إنما هؤلاء لهم حديث آخر، ومن أهم الصعوبات والعقبات التي واجهت ولم تزل تواجه الثوار في قيامهم بالتوعية والتحريض والتثوير في مقاومة الملايين من العاملين في هذه الصناعة العملاقة هي الخرافات التالية: “الفتنة الطائفية”، “الفوضى”،”البورصة”، “الجيش والشعب إيد واحدة”، “الجيش حمى الثورة”، “البلطجية”، “لقد سقط النظام ونجحت الثورة”، “الاستقرار”، “عصام شرف طلع من الميدان”، “كشف العذرية إجراء تقليدي”، “الاستفتاء وأسطورة “الله يأمركم بنعم”، “شرعية المجلس العسكري”، “الجيش خط أحمر”، “عجلة الإنتاج”، “المحاكمات”، “إسرائيل على الحدود” .... ودائما أبدا: “المادة الثانية وإسلامية الدولة”. ومن الخرافات السابقة وغيرها تتقاسم الخطورة الأكبر مجموعتان: الأولى تتعلق بالدين باعتبارها المؤهلة للتضخم والتطرف والوصول للتقاتل باسم الجهاد في سبيل الله، وهي صاحبة الفضل في إبداع “غزوة الصناديق”، و”الديمقراطية هي إن أمك تقلع الحجاب”، والمدنية تعني إن الرجالة يتجوزوا بعض والستات تتجوز بعضها”، وغير ذلك من ابتكارات، وهي المؤهلة تاريخيا لتصبح أسطورة يؤمن متبعها بكل ما فيها حتى ولو كان غير منطقي بالمرة، فالمؤمنون بالأساطير لا يراجعونها أبدا بل يجعلونها هي المعيار والمقياس والمرجع. والمجموعة الثانية: تتعلق بالعسكر حيث تضم ما يمكن تسميته بالخرافات الحاكمة نسبة إلى حكم أصحابها، ويتم إسباغ صفات كثيرة وكبيرة على العسكر الذين يصبحون فجأة مؤهلين للحكم والفتوى والحسم في أمور الدين والدنيا والسياسة والاقتصاد والإعلام والقانون والدستور والأحزاب .... الخ وكل ذلك بعنف وتعالى وأحادية وبالطبع إقصاء واجب لكل من يدعي أنه صاحب اختصاص في أي من هذه الحقول المعرفية والفنية، وليس أطرف من قيام اللواء ممدوح شاهين في برنامج آخر كلام بتعنيف ثلاثة أمثال أ.د. حسن نافعة، و أ.د. حسام عيسى، و أ.د. جمال زهران أساتذة القانون والعلوم السياسية، يقوم بتعنيفهم ونهرهم ونَهيم عن الحديث فيما ليس من تخصصهم وهم أساتذة الأساتذة في القانون والدستور والنظم السياسية وكان حديثهم الذي استفزه بخصوص الإعلان الدستوري، بل اعتبر نفسه مؤهلا ووكيلا أكثر شرعية من الناصري حسام عيسى في الدفاع عن ثورة يوليو بإدعاء أنها ممثلة فقط في “كوتة” العمال والفلاحين بالمجلس. وبالرغم من سلطة وخطورة الخرافات الدينية والعسكرية فإن أكثر الخرافات شيوعا وترديدا على ألسنة العامة هي تلك الخرافات المتعلقة بمصالحهم الشخصية جدا والمباشرة جدا، لنجد الكثيرين يتحدثون في الاقتصاد، والبورصة، وعجلة الإنتاج، والموازنة العامة، وليس بعيدا عن ذلك تطلعاتهم للمليارات التي يحسبونها ستؤول إليهم حال عودتها، فلا يكترثون بدماء المصابين، ولا بأعراض المنتهكة أعراضهن في خرافة “كشوف العذرية (الإجراء التقليدي)”، ولا بأرواح الشهداء؛ حتى أنك لتسمع من بعضهم ردودا عن الشهداء من قبيل: “ما اللي مات مات وخلاص”، “ما كلنا هانموت”، “يعني هايعملولهم إيه؟” ... الخ من ردود مستفزة ومهينة وجارحة، والأشخاص أنفسهم تتملكهم الحمية كلها والعصبية في ذروتها إذا ما سمعوا أو تشككوا في عودة المليارات أو رفع الأسعار أو عدم رفع الحد الأدنى للأجور ...إلخ من حقوق وامتيازات حدث ما حدث منها بفضل الشهداء والثورة، ولن يحدث أغلبها إلا باستمرار الثوار الذين بالطبع لا ينالهم إلا الهجوم والسب والقذف والخرافة. وإذا سألت واحدًا من ملايين للأسف أي سؤال بخصوص مدى منطقية ومصداقية أي خرافة مما يردد يسارع غالبا بغضب وعنف وخوف مقاطعا إياك ومرددا على مسامعك القدر المتاح له من الحكايات والجمل الخرافية التي ابتلعها من الإعلام ومن المحيطين به، ونادرًا ما أن يسمح لك بإكمال جملة مفيدة، فهو لا يسمعك، ولا يسمع حتى ما يقوله بلسانه، وفي الحالات التي يسمعك سامع وتسأله مثلا عن النظام، وماذا يعني؟ وهل سقط؟ وما الذي يجعل عجلة الإنتاج تتوقف كما يدعون؟ بنسبة كبيرة جدا سيصل الصادق منهم والذي يريد أن يفهم فعلا إلى الإجابات السهلة التي لا تحتاج إلى سياسي محنك ولا لمنظر كبير أو خطيب مفوه، وسيبتسم ببراءة وكأنه لم يقترف ذنبا. المصريون البسطاء -المشاركون بقوة عددهم وثرثرتهم في صناعة الخرافات والأساطير- رغم جهل الملايين منهم وفقر وعوز الملايين ومرض الملايين وفساد الملايين بالرغم من كل هذا إلا إنهم في الغالب أذكياء، يحتمون بالغباء والبلاهة ويتقنعون بها استحمالا لفاسد مستبد، وحيلة دفاعية للصبر، ومضاد للاكتئاب، وكذلك ستار للكسل والتواكل، وتفضيل المصلحة الرخيصة على المبدأ والمعنى. هذه المعادلة التي تجعل من هذا الشعب غير مأمون العواقب حتى في صناعته المفضلة للخرافات، فلا يضمن النظام المستبد المهيمن ولاء هؤلاء الخدم المروجين لخرافاته والمدافعين عنها، وحتى إذا ما ابتلع المبتلعون أسطورة “الله يأمركم بالتصويت بنعم” التي خدمت خرافة الاستفتاء، انتقالا لخرافة “إن الاستفتاء أعطى شرعية الحكم للمجلس العسكري” فإن النظام في هيكله الجديد الذي اتسع ليستوعب الانتهازيين والعملاء والكارتونيين .... الخ كل هؤلاء لا يأمنون أبدًا مكر المصريين حتى المؤمنين بالخرافات منهم، وهو ما ستكشفه الانتخابات القادمة إلا إذا تم تزويرها كالعادة. وعجيب أن لا يدرك صانعوا الخرافات والأساطير وأعوانهم، أن السحر ينقلب على الساحر تدريجيا ليتحول الملايين ممن لم يشاركوا في الثورة لثوار وقد فهموا؛ وليس أدل على ذلك مما حدث بخصوص خرافة الجيش الذي ضرب واعتقل وقتل وانتهك أعراض الثوار والثائرات، فليس هناك أبدا “إيد واحدة” تفعل ذلك في نفسها إلا إن كانت تنتحر، وكذلك خرافة “شرف” عضو الحزب الوطني الذي لم يأت بفعل واحد يثبت صدق انتمائه للميدان أو الثورة، لم تعد هذه الخرافات الآن صالحة إلا في حدود أقل بكثير مما صنعت لأجله لذلك فالمصنع سرعان ما يعاجلنا بخرافات أكبر وأكثر إشغالا وإثارة والتي لن يكون آخرها خرافة أمن الحدود وخرق إسرائيل له. مدرس مساعد بكلية الآداب قسم مسرح