من الصعب أن تكون يسارياً ولا تعرف محمد سعيد. هو لم يصدر كتاباً عن الاشتراكية ولم يهتم بنشر صورة له فى الصحافة ولم يسع إلى فضائية ليتكلم .. هو محمد سعيد وفقط.. الراهب فى محراب اليسار والجندى المجهول فى كل أنشطة الشارع. أكتب عنه لأن محمد سعيد هو صانع حقيقى من صناع المظاهرات فى مصر عبر عشرات السنين .. يصنعها ويسكت يركن إلى أصدقائه فى المساء ليراجع ثغرة هنا أو إضافة هناك.. يرتب للمظاهرة بالحشد واللافتة ويرجع إلى بيته راضياً مهما كان عدد المتظاهرين محدودا .. فهو على ثقة من أن عمله التراكمى مع آخرين سوف ينتج فى نهاية المطاف ثورة كبرى كالتى شاهدتها مصر فى يناير 2011. ومن السهل أن أقول عنه أنه دينامو المظاهرات فى حزب التجمع، ولكن هذا القول ليس هو الوصف الدقيق لذلك الرجل .. فقد بدأ حكايته فى السير عكس الاتجاه مبكرا .. عندما كان الزمان سبعينى وكان حزب التجمع يتحرك فى كل الأقسام والمحافظات وقتها ذهب خالد محى الدين إلى مركز شباب السيدة زينب ليشارك فى مؤتمر جماهيرى رتب له القائد العمالى الراحل عبد الحميد الشيخ .. وذهبت توقعات المجموعة المنظمة إلى أن محاولات سوف يبذلها الأمن والإدارة لإفشال المؤتمر .. محمد سعيد كان هناك شابا ذكيا ومغامرا فهو واحد من أبناء هذا الحى وبيته لا يبعد كثيرا عن مكان المؤتمر وبالفعل ما توقعه عبد الحميد الشيخ قد حدث ما إن بدأ خالد محى الدين خطابه حتى تم فصل التيار الكهربائى عن المنصة .. هنا تجلت موهبة الفتى محمد سعيد الذى كان قد استعد فى سرية ودون أن يخبر أحد يستعد بسلك كهربائى طويل يمتد من بيته حتى منصة المؤتمر الذى يضاء من جديد ويواصل اليسار خطابه فى قلعة اليسار .. فعلى بعد خطوات كانت قلعة الكبش الشهيرة بمناضليها من اليساريين يتقدمهم محمد الخياط والدكتور حسانين أمين والمهندس إبراهيم حمودة بينما كان محمد أمين من طلائع الشباب اليسارى هناك . هكذا يبدأ محمد سعيد ارتباطه بقافلة اليسار التى ستأخذ منه سنوات عمره ولذلك لا يصح الوصف أبداً بحجم الطاقة التى يبذلها ولكن الصحيح هو وصف محمد سعيد بحجم الانتماء وصدق الموهبة فى العطاء.. الصحيح هو وصف هذا الفتى بما يتمتع به من مفردات نادرة فى الالتزام والانضباط والمحبة العارمة للآخرين والإيمان بما يفعل. ألتقى محمد سعيد فى عشرات المظاهرات عفياً يقظا ولا يصدق المحيطون به أن هذا الرجل المرفوع على الأكتاف الآن لم ينم الليالى السابقة على المظاهرة فهو نقطة الارتكاز والاتصال فى حزب التجمع حيث يبدأ فى الإعداد للمظاهرات مبكرا بشراء أثواب القماش من العتبة ، وصياغة الشعارات المكتوبة عليها ، متابعة الخطاط ، ابتكار أنسب الأشكال لرفع اللافتات فى الشارع، صياغة شعارات الهتاف فى الشارع أثناء المظاهرة، الاطمئنان على صلاحية الميكرفون اليدوى والأهم من هذا كله سيل الاتصالات التى يجريها بلجان الحزب فى الأقاليم محرضا إياهم على ضرورة الحضور والمشاركة. ولم يختصر محمد سعيد دوره فى المظاهرات التجمعية التى شاهدتها شوارع القاهرة فى السنوات الماضية ولكنه بحكم قناعاته كان واحدا من الجبهويين الكبار فلم يتخندق مع فصيل ضد أخر ولكن كل الفصائل كانت تعرف أن لها فى التجمع محمد سعيد . وتأتى لحظة ولادة المظاهرة فى الشارع من أمتع لحظات محمد سعيد الذى يتحرك فى كل اتجاه راعيا للجميع خائفا علي المشاركين من الخطف تجده دائما فى كل اتجاه أمامهم وخلفهم عن يمين وعن يسار يحرسهم ويحييهم ويشجعهم يستقبل القادمين إلى المظاهرة متأخرين بابتسامة ومصافحة باليد. وما أن يعلو الهتاف المظاهرة حتى نرى هذا الرجل الستينى وقد تفوق على أبناء العشرين ربيعا يعلو فوق الأكتاف ويعلو معه صوته ليحاصر الأمن الذى يحاصر المظاهرة ويمتد صوته متجاوزا كردونات الأمن إلى الناس على الأرصفة البعيدة ليحثهم بشعارات ليس من قائل لها قبله ولكن من يرددها بعده كثيرون . ففى دعم الانتفاضة الفلسطينية وكانت من بواكير المظاهرات فى مصر فى بدايات الألفين يهتف محمد سعيد : (جهزوا جيش الخلاص ..بكرة الدعم هيبقى رصاص ) وله أيضا فى نفس الموضوع شعار أخر وهو ( بكرة الدعم هيبقى بنادق ..لما هننزل الخنادق) كما يحدد موقفه السياسى فى شعاراته بدقة بالغة فالمظاهرات التى تصدت لضرب العراق فقد بلور سعيد شعاره الذى يفصل تماما بين الشعب المصرى ونظام مبارك ليقول لبغداد ( يا بغداد تحت الحصار..مصر الشعب ف خط النار) هكذا هو محمد سعيد ابن الحارة المصرية والحى الشعبى الذين تشكل وجدانهم على انه لا فرق بين عبد الحليم حافظ والشيخ إمام.. وهنا قد يكمن السر.. لا نضال بدون وجدان نقى ولا ثورة بدون الوعى، ولا وعى بدون تنظيم. ولما كان تنظيم حزب التجمع ملء السمع والبصر واسم خالد محيى الدين يمنحه امتيازاً فلم يتردد الشاب محمد سعيد فى أن يترك وظيفته الحكومية حيث كان موظفا بالهيئة العامة للتأمينات وينخرط بكل ما أوتى من قوة لدعم بناء أول حزب علنى لليسار المصرى.. لم يندم على ضياع الوظيفة ولم أسمعه أبداً متألماً من شهادة ليسانس الحقوق التى يحملها والتى أصبحت مجرد شهادة فى برواز.. ولكنى رأيته ذات مرة يبكى عن هزيمة عارضة لنا فى انتخابات برلمانية.. وسمعته يغنى عند أول انتصار إنه وجدان مناضل على درجة فنان. وتدور الدنيا يدخل محمد سعيد السجون ويخرج منها – بالمناسبة لا يتحدث سعيد عن سجنه أبداً – وتواصل الدنيا دورانها ويدخل رفاقا آخرون السجن ويتعهد محمد سعيد بمتابعة لجنة الإعاشة للمسجونين وتدور الدنيا اكثر فأكثر ويرتبط هو بجدران حزب التجمع فى واحد كريم الدولة ميدان طلعت حرب القاهرة حتى أن المترددين على الحزب لا يمكن أن يقتنعوا أنهم فى حزب التجمع إذا لم يجدوا محمد سعيد أمامهم هذه الحالة يفهمها جيداً القادمون من الأقاليم أمثالى فماذا يريد الناس من الإسكندرية إلى أسوان إلا مقابلة شخص مخلص؟!. وبعيدا عن العمل الجماهيرى يكتشف القريبون من محمد سعيد أنه واحد من رجال التنظيم القادرون على متابعة العمل فى المحافظات بسلاسة وجامع الشمل للمتخاصمين ..هو سبيكة تجمعية خالصة لمن أراد دراسة حزب التجمع.. ولعل الدور الحقيقى لحزب التجمع فى ثورة 25 يناير قد أسسه محمد سعيد عندما أطلق كل مواهبه مع المخلصين بالحزب لينشىء بالمقر قاعة للإسعافات الأولية ويفتتح ورشة لكتابة اللافتات ويتكفل بأول جهاز ساوند سيستم يسارى يدخل ميدان التحريرلدعم نشاط المتظاهرين ويتواصل عمله مع آخرين فى الحشد والتنظيم سواء من داخل القاهرة أو متابعة دور الحزب فى الثورة بالمحافظات .. ليبقى محمد سعيد منذ عصر 25 يناير حتى يوم التنحى وهو مقيما بالمقر لا يغادره إلا لمتابعة العمل فى ميدان التحرير . أما النقطة الأخيرة أقولها لمن يريد الكتابة عن ذلك الفتى.. لا يخدعك مظهر محمد سعيد الشاب الأنيق صاحب الشعر الأسود والوجه المصرى والابتسامة الودود لأنه يحمل خبرة عشرات السنوات والعمر المطحون على الأرصفة فأنتبه أنه سياسى من طراز رفيع.