اكتظت المقاهي منذ أسابيع قليلة بالمتفرجين المتحمسين، وارتفعت أصوات تهليلهم لتملأ الشوارع والأزقة؛ لقد اجتمعوا لمشاهدة "الكلاسيكو" لقاء القمة بين أعرق وأقوى فرق كرة القدم في إسبانيا "ريال مدريد" الملكي و"برشلونة" المتمرد، لست ممن يهتمون بمشاهدة مباريات كرة القدم في العموم، لكن لا يمكنك تجاهل هكذا حدث أو الإرهاصات والتحليلات التي تأتي بعده لتستمر أياما طويلة قبل أن تأتي ملحمة كروية أخرى ربما محلية هذه المرة لتحل محلها في بؤرة التحليل والاهتمام عند الناس. جاء الكلاسيكو هذا العام مصحوبا بجو مشحون بالتوتر والتحفز، ففريق الريال كان يكفيه التعادل ليحسم الفوز في البطولة، بينما فريق برشلونة كان عليه أن يفوز في المباراة إن أراد أن يحسن من وضعه ويزيد من احتمالية فوزه بالبطولة، الوضع حرج للمتمردين من "كاتالونيا"، مما جعلهم أكثر حماسا ورغبة في تحقيق الفوز، ولكن خصمه القوي المخضرم لن يكون هدفا سهلا ولن يمكنه من نيل مراده بسهولة. استمر النزال والتناوش بينهم طيلة فترة المباراة بعد أن أنهك كل طرف خصمه في معزوفة رشيقة متناغمة من المناورة والخداع ربما هي التي تمتع المشجعين المتحمسين أكثر من إحراز الهدف نفسه، إنها تلك الحالة من الترقب والتعلق بين الأمل والخوف الذي يصدر تلك الصيحة الجامحة التي هي ربما تحية للعبة الحلوة التي أرّقت أعين المراقبين لها والكرة تقفز من قدم إلى قدم ومن جهة إلى جهة وتقترب شيئا فشيئا من شباك المرمى قبل أن يصدها مدافع شجاع أو أن ترمي بها الأقدار في القائم فترتطم لتقفز بعيدا عن الشباك، أسفر هذا النزال بينهما عن التعادل بهدفين في مباراة أوشكت أن تنتهي في دقيقتها التسعين بعد أن أعلن الحكم عن الوقت الإضافي: دقيقتان.
وجد أحد فرسان برشلونة في هذه الدقائق القليلة الفرصة، فطار خلف الكرة يركلها ويوجهها قبالة مرمى الخصم في محاولة شجاعة منه لقلب ميزان المباراة في صالح فريقه، كان الفارس هو "سيرجي روبرتو" الذي انطلق من جهة مرمى برشلونة ليعدو خمسين ياردة، ثم أعطى الكرة لأفراد الهجوم الذين تناولوا الكرة بينهم في مراوغة قبل أن يحرز "ليونل ميسي" هدف الفوز لبرشلونة لينتهي اللقاء في دقائقه الأخير بنتيجة 3:2. ولكن أثناء عدو سرجي نحو فريق الهجوم حاول اثنان من لاعبي الخصم منعه من التقدم، كان أحد هؤلاء اللاعبين "مارسيلو" والذي نشاهد لحظة محاولة قطعة لعدوة "سيرجي" في هذه اللقطة من المباراة: هنا مارسيلو وجد نفسه أمام اختيارين كلاهما له مرارته من وجهة نظري، فإما أن يصطدم ب"سيرجي" ويسجل خطأ مما سيضيع الفرصة على الفريق الخصم من تحقيق الهجمة التي أدت لفوزه أو أن يلتزم بالأخلاق الرياضية ولا يقطع الكرة إلا بقواعد اللعب النظيف دون أن يسجل خطأ أو "فاول"، وواقع الصورة التي نراها وأحداث المباراة التي تلت هذه اللحظة تدل على أنه اختار اللعب النظيف وفق أخلاق الرياضة والتزاما منه بالروح الرياضية، وبالفعل تفادي الاصطدام ولكنه حاول اللحاق ب"سرجي" عدوا بعد ذلك الذي كان أسرع منه وانتهى كل شيء في ثواني معدودة بعد ذلك.
لم أكتب لأشرح ما حدث في المباراة فربما الكثيرون شاهدوها، لكن ما حدث بعد المباراة هو ما لفت نظري؛ فلقد لام لاعبون مثل "رونالدو" (تجد الخبر هنا) من فريق ريال مدريد "مارسيلو" على عدم تدخله لمنع الهجمة، كانوا يريدونه أن يسجل الخطأ ويمنع "سرجي" من التقدم، وكأن الاختيار بين الأخلاق الرياضية والفوز محسوم في عقولهم التي تقدر الفوز فوق كل شيء وبأي طريقة كانت، بل امتد الموضوع خارج الفريق لتنتقده بعض المواقع على هذا التصرف وكأن البديهي كان كسر قواعد "اللعبة الحلوة" وقتل الروح الرياضية (تجد الخبر هنا) بالإسبانية في أحد المقالات بعنوان لماذا لم يمنع "مارسيلو" "سيرجي" في اللعبة الأخيرة؟، وانتقلت الحالة للاعب الذي نجده يتقبل اللوم أو يلوم نفسه! لا فقط على إضاعة الفرصة على فريقه بعدم منع "سيرجي" ولو كلف الأمر "فاول"، بل يحمل نفسه تبعات هذا القرار والثقل الكبير لخسارة فريقه المباراة (تجد الخبر هنا 1 و2 و3). علينا أن نلاحظ هنا المفارقة الأخلاقية والتحول في القيم الذي نواجهه مع موقف كهذا، موقف ليس بالبسيط بل مع بعض التعميم المدعوم بالشواهد يمكننا أن نقول إن هذا التغير في القيم الأخلاقية ليس حالة فردية، بل هو واقع اجتماعي نعايشه اليوم، فنحن مثل "رونالدو" لم نعد نحزن لأننا "لم نسجل هدفا"، بل أصبح سبب حزننا هو أننا لم نستطيع أن نعرقل من يحرز الهدف، لم يعد المهم هو تطوير النفس لتحقق النجاح، على قدر ما ينصب اهتمامنا على عرقلة الناجح لكي لا يظهر عوارنا وتقصيرنا، لم نعد نشجع الأولاد على المذاكرة والاجتهاد ليحرزوا الدرجات بل نلومهم لأنهم لم يغشوا بما فيه الكفاية أو يستفيدوا من تسيب اللجنة كما ينبغي أو "تسريب الامتحانات" ليحققوا الفوز الزائف.
ولذلك أختم وأقول لقد خسر ريال مدريد مرتين لا مرة واحدة في هذا اللقاء، مرة خسر المباراة وأخرى خسر في حرب القيم والأخلاق، أما "مارسلو" فلقد خسر المباراة لكن أحب أن أتخيل أن جمهورا غير الجمهور ومشجعين غير المشجعين ممن ينظرون للقيمة الحقيقية ل"اللعبة الحلوة النظيفة" لا فقط للكسب والفوز والتهليل، هؤلاء اليوم ينظرون ل"مارسيلو" بمزيد من الإعجاب والاحترام على موقفه النبيل الذي قدم فيه سلامة منافسه والقيم الرياضية التي يمثلها على فوز ربما كان سيفقد طعمه مع الفاول المزعوم، وربما أيضا لا يعجبهم تقبله للوم وتحمل مسؤولية هزيمة فريقه بالكامل، لكن ربما يرجعون ذلك للضغوط التي تعرض لها من مجتمع اختلت بوصلته القيمية، لاعبين، ومتفرجين!