"ولاد الأرض".. تجربة فنية خرجت من رحم المقاومة الشعبية بالسويس بعد نكسة 67، بألحان وكلمات تبث العزيمة والمثابرة والحماسة في نفوس المصريين، لكي يواجهوا الاستعمار ويقفوا في وجه العدو دون خوف وتردد. "غني يا سمسمية.. لرصاص البندقية.. ولكل إيد قوية.. حاضنة زنودها المدافع.. غني لكل دارس.. في الجامعة والمدارس.. لمجد بلاده حارس.. من غدر الصهيونية.. غنّي لكل عامل.. في الريف وفي المعامل.. بيأدي الواجب كامل.. وادّيله وردة هدية.. غنّي و دق الجلاجل.. مطرح ضرب القنابل.. راح تطرح السنابل.. ويصبح خيرها ليّ". ميلاد جديد يقول الكاتب الصحفي حسين العشي، في كتاب سنوات الحب والحرب: كانت بداية ظهور فرقة "ولاد الأرض" على يد الشاعر والمغني محمد غزالي، الشهير ب"الكابتن غزالي"، مع نكسة يونيو 1967 بدون مساندة أو دعم من أي جهة رسمية، فهي تجربة تلقائية خرجت من المقاومة الشعبية بالسويس لتساند الأهالي والجنود. غنت فرقة "ولاد الأرض"، على مدار سنوات المواجهة حتى نصر أكتوبر المجيد عام 1973، كانت تجوب شوارع وحواري مدن القناة تندد بالظلم والقهر، ولأغانيها دور كبير في تحميس الجنود، فكانت الغزالي يسير حاملاً آلة السمسمية وينشد الأشعار والأغاني مثل "فات الكتير يا بلدنا " و"يا بيوت السويس". "فات الكتير يا بلدنا ما بقاش إلا القليل، احنا ولادك يا مصر وعينيكى السهرانين، القوة يا جنودنا هنشق الليل بسلاحنا فجرنا بكفاحنا، ونجيب النصر هدية لمصر تحكي الدنيا علينا، بينا يالا بينا نحرر أراضينا. الرجل والتجربة لا يمكن التحدث عن "ولاد الأرض" دون ذكر الكابتن الغزالي، الذي رحل عن عالمنا أول أمس، حيث يقول كتاب سنوات الحب والحرب، "إن الغزالي وولاد الأرض ولدا من رحم واحد، هو رحم المقاومة والرفض، ومن ثم لا يستطيع أي باحث أن يفصل بين الرجل والتجربة". ولد الغزالي بقرية أبنود بقنا عام 1928، لكنه نشأ وعاش بمدينة السويس وتخرج من معهد ليوناردو دافنشي بالقاهرة، وبعد أن عاد إلى السويس عمل موظفًا بوزارة الزراعة، وشارك في العديد من الاحتجاجات الطلابية ضد الإنجليز، وانضم لحركة الفدائيين بمنطقة القناة ضد تواجد قوات الإحتلال البريطاني، فيما أسهم في العديد من العمليات الفدائية، واستمر في العمل النضالي وسط صفوف المقاومة الشعبية، إلى أن أسس فرقته "أولاد الأرض" بعد النكسة، وكانت الفرقة تقوم بزيارة المهجرين في معسكراتهم الجامعية ومؤازرتهم في محنتهم، ينشد الأغاني الداعمة لهم والمؤكدة بأن النصر لهم والعودة إلى بيوتهم التي هاجروها رغما عنهم قد قرب. لم تكتف الفرقة بالغناء في السويس ومدن القناة، ولكنها طافت المدن والقرى، وعندما وصلت إلى القاهرة، وجد كابتن الغزالي أن المثقفين يقضون أوقاتهم على المقاهي غير عابئين بما يحدث على الجبهة، فهاجمهم قائلا: "يا شعرا.. يا كتاب.. يا نضال ع القهاوي.. يا هم.. يا غم.. يا سبب البلاوي". "بينا يلا بينا.. نحرر أراضينا.. وعضم اخواتنا.. نلمه نلمه.. نسنه نسنه.. ونعمل منه مدافع.. وندافع ونجيب النصر هدية لمصر.. ونكتب عليه أسامينا"، غنتها فرقة ولاد الأرض لتحميس الجنود والأهالي للثأر من العدو وجلب حق الشهداء الذين راحوا من أجل الدفاع عن الأرض والعرض. من البسطاء تكونت الفرقة من البسطاء المقهورين بعد النكسة الذين حلموا بتحرير الأرض من العدو، فكانوا ينشدون الأغاني داخل المعسكرات ويجلسون على البطانية داخل الخندق، فسميت في البداية بفرقة البطانية، إلا أن كابتن الغزالي وجد أنهم من أبناء هذه الأرض وأبناء المقاومة الشعبية، لذلك أطلق عليها اسم "فرقة أولاد الأرض". قدم الغزالي من خلال الفرقة أشعارا خلدها التاريخ عن الوطن والمقاومة والهزيمة والمقهورين والفقراء، وكان الفنانون يتهافتون عليه لتقديم أشعارهم لما احتلته الفرقة من مكانة كبيرة، فهي أحد رموز المقاومة الشعبية ومن بين هؤلاء الشعراء "عطية عليان، كامل عيد رمضان" وغنت الفرقة واحدة من أشهر أغانيها "ياريس البحرية" من كلمات كامل عيد رمضان. كان من الطبيعي أن ينقم الغزالي، ابن المقاومة الشعبية، على الأغاني التي لا تحس على حب الوطن، حيث انتقد غزالي الإعلام المصري في تلك الفترة، وما تبثه الإذاعة المصرية من أغاني عاطفية، حتى إنه كان يسخر من أغنية عبدالحليم حافظ "سواح، لأ لأ لأ لأ لأ مش ح أغني للقمر، ولا للشجر، ولا للورد في غيطانه، ولا نيش سواح، ولا هقول للهوى طوّحني، طول ما فيكي يا بلدي شبر مستباح". مع المثقفين في «دكانته» كانت تجربة ولاد الأرض مبهرة لعدد كبير من المثقفين المصريين والعرب، فكانوا يتوجهون إلى السويس من أجل مقابلة الشاعر غزالي، فشهدت دكانته الصغيرة التي تعج بالكتب لقاءات مع صلاح جاهين وأمل دنقل وعبدالرحمن الأبنودي وغيرهم، وقال الشاعر محمود درويش عن الفرقة: "عندما سمعت هذه الكلمات شعرت أنني أتحول إلى تلميذ مبتدئ في مدرسة شعر المقاومة". ولايزال الكابتن غزالي تجربة شعرية وفنية نابضة بالحياة على الرغم من رحيله عن عالمنا في الثاني من أبريل 2017، عن عمر يناهز 89 عاما، بعد صراع طويل مع المرض، ليبقي أيقونة وعلامة في تاريخ المقاومة الشعبية بالسويس.