“بالرغم من ... شعرك الجميل وهو حر ويتنسم الهوا او بتلاعبيه بايدك ، بالرغم من جمال صوتك في رعشته وفي ضحكته، بالرغم من جمال خطوتك المرحة أحيانا والمستعجلة والمترددة أحيانا أخرى بالرغم من جمال عينك وهي بتضحك وهي بتنكسف – يا لهوي – إلا أن أجمل شيء فيك الحرية .. الحرية ... الحرية” كان هذا جزء من كلماتي مشحونة بالعاطفة الحقيقية والصادقة لإحدى فتيات الثورة، امرأة قدمت من أقاصي الريف حيث التقاليد الاجتماعية فقدت مبرر وجودها، واكتفت بوضع قيود على جسد المرأة وعقلها وروحها، فالحجاب فريضة والإيمان بما يعتقده الناس منتهى العقل، والالتزام بالعفة والصلاة والواجبات الأسرية والاجتماعية منتهى الروحانية، أن تخلع فتاة الحجاب وتنزع إلى المغامرة والبحث عن الذات، أن تشك وتقلق وتفكر وتقرأ في البوذية والمسيحية واليهودية والبهائية وتقرر أن تكون لا دينية، أن تستمتع بحياتها وتستمد التزاماتها الاجتماعية من مشاعرها ولذاذاتها الذاتية، أن تتحرر المرأة عقلا وروحا وفكرا وجسدا هو بالنسبة إلى تلك البقعة المصرية منتهى الرذيلة والكفر والأنانية والسفالة ! أستطيع أن أصف نفسي قبل الثورة بصفة يلصقها الإنجليز بالشخص الملازم للكتاب ويحاول الإجابة عن أسئلة حياتية مما يقرأ ” بوكيشمان ” كانت الكلمة عندي أكثر قداسة من الحياة نفسها، فأستمتع بالعبارة البليغة أكثر من النسمة الجميلة، وأنتشي ببيت من الشعر أكثر من الرحلات والعشق والصداقة، وكانت لدي عقدة الخواجة فلقد كنت مهووسا بالقراءة حول الشخصيات الأدبية والفكرية، وكنت معجبا بالأديبات المتحررات مثل إيزابيل الليندي وأليس مونرو – القاصة الكندية الحاصلة على جائزة البوكر – وكيف أنهم كفروا بالعائلة والتقاليد والأفكار البالية، وناضلوا من أجل أن يكونوا أنفسهم، أقرأ فأسبح في سبحات الخيال، وعندما أغلق كتابي أرى واقعا أليما ومؤلما، صادقت فتيات جميلات روحا وعقلا وجسدا أيضا ولكن تظل القيود الحريرية حائلة بينهم وبين جمالهم، أكثرهم وعيا وفهما يخضعون لتلك القيود وهم واعون أنهم خاضعون لتلك القيود، صراعات تنتهي بالفشل والإحباط . عشت في منطقة ريفية جدا سواء في قريتنا الصغيرة البتانون الملحقة بشبين الكوم أو في مدينة شبين الكوم نفسها، وكان أحد أقربائي يعاني نفسيا؛ فلقد أحب فتاة مسيحية ولم يستطع حتى أن يبادلها الحب ولو شفهيا، يرى أن كل شيء مفروض عليه طريقة حياته ودينه وطريقة اختياراته آثر الهروب من هذا المستنقع إلى الإمارات وقد حمل كرها شديدا للمسلمين في الإمارات بسبب تعاليهم وتكبرهم على أصحاب الديانات الأرضية وانتهى به الأمر إلى أن أصبح بوذيا . وفي حيلة هروبية اعتدت عليها وأدمنتها – أني كلما تمنيت شيئا من الواقع بدلا من أن أسعى إلى تحقيقه والكفاح من أجل وجوده أهرب إلى الكتابة الخيالية الخلاقة – الرواية – كتبت رواية الحلم إيمان عن فتاة أحلم بأن تلد أم مصرية مثلها ، فتاة تحلم ويشكل هذا الحلم المعنى لحياتها والروح لروحها وتصارع كل أشكال السلطة في المجتمع من أجله، وتخيلت أني سلكت هذا المسلك وأن هناك جيل سلك السبيل ذاته وقاموا بثورة على كل شيء بالي وسخيف وبلا معنى في حياتنا، ونجحت الثورة والتقيت بإيمان التي آمنت بحلمها . وبعد عزمي بأي شكل على مغادرة شبين والذهاب إلى القاهرة، خلقت في البداية عالما حولي واستعضت به عن العالم الحقيقي الذي أرفضه ويرفضني، لم أكن ذكيا كفاية حتى أرى واقعا مدهشا وجميلا فاق كل ما قرأت أو تخيلت. في هذه اللحظة كانت إيمان – بنت الثورة وليست بنت خيالي الروائي – قد كفرت بالعائلة والتقاليد والأفكار البالية، وناضلت من أجل أن تكون نفسها ، كانت تركت التدريس بقريتها وخلعت الحجاب وهربت إلى القاهرة. انضمت إلى اعتصامات التحرير واتحد في فعلها الثورتين الصغرى ضد استبداد العائلة والكبرى ضد المجلس العسكري ، يلاحقها المجلس العسكري كثائرة رافضة لحكم العسكر ويطاردها إخوتها كمنشقة على العائلة، ثم قررت بعد شد وجذب مع نفسها أن تواجه ” البيت ” وتقول لهم في وجوههم إني أحبكم، ولكن ليس على حساب حريتي ، بالطبع كان كلامها بالنسبة لهم “لاتيني” فهذه المفردات غريبة عن الطبقة الوسطى المصرية خاصة في الأرياف، في الوقت الذي كانت الفتيات تتعرض للإيذاء النفسي والجسدي في المعتقلات العسكرية كانت إيمان تتعرض له في بيتها، في الوقت الذي عرضوا فيه مايكل نبيل على المستشفى النفسي ذهب والدها بها إلى دكتور نفسي لعلاجها، حتى الدكتور كان في حيرة من أمره، قال لوالدها ” بنتك يا إما عبقرية يا إما مجنونة فأعطوها فرصة ولتفعل ما تريد ” هنا ذهبت إلى القاهرة رافعة رأسها بكبرياء تقول بلا أدنى ذرة من خوف ” يسقط يسقط حكم العسكر “ استقرت في القاهرة وهي لا تعلم ماذا تريد ؟ هي تريد أن تكون حقيقية أن تعيش ذاتها وتتجاوب مع ميولها ورغباتها بحرية تامة، تعشق الكتابة ولكن أي نوع من الكتابة لا تدري ؟ فقط آمنت بالحلم ومشت وراؤه كالمسحورة ، كثوار التحرير الذين يرفضون القيود والفساد ويعشقون المبادئ العليا الحرية والعدالة والشهادة والنضال . إيمان ليست حالة فريدة أو مميزة لقد قابلت الكثير جدا منها ، آخرها كان منذ أسبوع حينما ذهبنا إلى إحدى الكنائس الإنجيلية في وسط البلد لحضور الترانيم والعيش لحظات في روحانيتها، وكان معنا مسلمون وبهائيون ولا دينيون ومسيحيون، وبعدما تركناها جلسنا جلسة كبيرة جدا ضمتنا جميعا – وكلنا كنا من المشاركين بقوة في ثورة التحرير – ذكرت فتاة مسيحية – سارة – أنها كرهت طريقة تربيتنا وأنا ولدنا وليس لدينا ثقافة الاختيار فلبسنا وديننا وأسلوبنا كله مفروض علينا، وأعلنت أنها مسيحية ولكنها ستربي أولادها على الحرية الدينية وستنمي فيهم ملكة الاختيار وليختر كل منهم الدين الذي يشاء والحياة التي يحب . أتفرس في وجوه فتيات الثورة الجميلة والملهمة، لا ينقصهم سحر في عيونهن وهيف في قدودهن، ورنة حلوة في أصواتهن، وجمال في وجوههن ... ولكن سيظل أجمل شيء فيهن الحرية، وهو ما يجعلني أردد دائما كلما رأيتها أو خلوت إلى نفسي : يا محلا بنات الثورة !