وقد قسَّم المؤرخون التاريخ الإنساني بطرق شتى، فمنهم من نظر إلى طريقة الحكم، فقسَّمه إلى عصورِ الملكية وعصور الإمبراطوريات ثم عصور الديمقراطيات. وبنظرة علماءِ الآثار والحفريات قسَّم بعضُهم التاريخ إلى عصر استخدام الأدوات الحجرية ثم النحاسية فالبرونزية حتى استخدام الحديد في صنع الأدوات. وأصحاب النظرة الهندسية يضعون محطات فاصلة في تطور التاريخ الإنساني مثل اختراع العجلة ومن بعدها القوة البخارية وصولا إلى عصر التكنولوجيا. ولكن عالمًا كبيرًا هو الأستاذ "جيمس هنري برستِد" قد قسَّم التاريخَ الإنساني إلى عصرين أساسيين: الأول هو عصرُ كفاح الإنسان ضد القوى الطبيعية من حوله حتى استطاع التغلبَ عليها، أما العصر الثاني فهو عصر كفاح الإنسان مع نفسه الباطنة، حين بدأ ضميرُه يبزغ، وبدأت أخلاقُه تتكون، فقرر أن يسجِّل خلاصات أفكاره بالكتابة. [جيمس هنري برستد] ولقد أنفقَ برستد مليون جنيه استرليني - في بداية القرن العشرين - على دراسة تاريخ الشرق القديم. وجمعَ تلك الأموال من رجالات أمريكا المهتمين بالعلوم والبحوث.. .كان برستد يبحث عن جذورِ المدنية ودعائمها، وقد انتهى بحثُه بما لا يدع مجالًا للشك أن مصر هي أصل مدنيَّات العالم. فكتب رائعته الخالدة "فجر الضمير". ذلك الكتاب الذي نشره عام 1934م - قبل وفاته بعام واحد - بعدما أنفق في سبيله المالَ والعمر. يدهشك الكتابُ من أولى صفحاته، فتجد برستد يُقِرُّ في مقدمته أنه قد حفظ الوصايا العشر كغيره من الصبيان، وتعلم تقديسَها باعتبارها نصًّا إلهيًّا نزل على موسى. ولم يجد بينها وصية تقول: لا تكذب، فكان يكذب ويجد سلوةً لنفسه. وحين اشتد ساعده أحس بالنقص في الوصايا العشر وفي أي وصايا لا تُحرِّم الكذب. ثم يعلن برستد - وبكل جرأة - أن المصريين القدماء كان لديهم مقياسًا خُلقيا أسمى بكثير من الوصايا العشر المنقولة إليهم، وقد ظهر هذا المقياس قبل أن تُكتب الوصايا العشر بألف عام على الأقل. وترجم الأستاذ سليم حسن - عميد الأثريين - كتاب فجر الضمير إلى العربية عام 1956م، فعرَفَ القارئ العربي قدرَ مصر في العصور القديمة. فهي أصل الحضارة ومهد القِيَم، فيها شعر الإنسان لأول مرة بنداء الضمير، فتوفرت العوامل الأولى لبناء الأخلاق على أرضها. ولولا الأخلاق لظل الإنسان بدائيًّا حتى الآن، يصارع الحيوانات من أجل الطعام، ويصارع أبناء جلدته من أجل الفُتَات. وما ينفك برستد يعلن في كتابه أن المصريين هم من علموا الدنيا الأخلاق، وعندهم بدأ فجر الضمير، حين كان أجداده الأوروبيون لا يزالون في الكهوف متصارعين متناحرين على بقايا حيوان أو طير.. .وفي نفس الوقت كان المصريون يبنون الأهرامات ويسجلون أقدم البحوث في علم الاجتماع على أوراق البردي. منظور آخر. وقد دار حديث سريعٌ حول فجر الضمير بيني وبين أحد أصدقائي، فانتقل الحوارُ إلى ساحة الدين، حيث آدم أبو البشر قد جاء محمَّلًا برسالة إلهية وقواعدَ أخلاقية للتعايش على الأرض. فكيف نبع الضميرُ من مصر؟ وأجدني أضيف - من نفس المنظور الإسلامي - قولَه تعالى: وإن من أمة إلا خلا فيها نذير، فالرسل والأنبياء بُعثوا ليؤسسوا للهداية والرشاد عند كل الأمم. فلماذا المصريون دون غيرهم؟! ولم أعتد التدليسَ أو التعصب، ولكن لنناقش الأمر بنفس المنظور الإسلامي: فقد تَلقَّت الأممُ الرسالات بالرفض والصد في معظم الأحيان، وكانت حجة الرافضين الرئيسية هي التمسك بتراث الأجداد وقواعدهم وإن كانوا على خطأ. حتى من تقبلوا الرسالات وساروا على هديها فترة، ما لبثوا أن نسوا حظًّا مما ذُكِّروا به، فَضَلُّوا وأضلوا. إلا أن المصريين الذين وحدَّهم النهر العظيم منذ أقدم العصور وعلمهم الزراعةَ والتعاون ثم الحساب والكتابة، اجتمعوا على ضفتيه يطورون أخلاقهم، ويدونون ما يصل إليهم من فضائل الأمور. فكانت الأخلاق موروثهم الجمْعي. وهكذا كانت الطبيعة المصرية المفعمة بالعلم والتدوين بيئة خصبة لكل رسالة نبيلة. بل وملاذًا حصينا للمضطهدين من الأنبياء أنفسهم. فها هو نبي الله إبراهيم يُكرم فيها. ويوسفُ الصديق يجد فيها ملاذًا من إخوته، وإن سُجن على أرضها إلا أن عِشق المصريين لأربابِ العلم أوصله إلى خزائنها. ثم ها هم إخوته يلوذون بها من الجوع فيشبعون. وها هو فرعون موسى تؤمن زوجته ويسجد سحرته لرب العالمين إحقاقًا للحق رغما عنه. ثم ها هي العائلة المقدسة تجد في مصر الملاذ الأوحد من اضطهاد الرومان. وفي النهاية جاء الإسلام فلم تنمو علومه إلا على أرضها، حيث الأرضُ الخصبة التي تعلمت الكتابة منذ آلاف السنين، والشمسُ الساطعة التي أرست القواعد للعالمين. إنها سبعة آلاف عام من الحضارة المدونة، وأمثالها مما لم يدون، أرسي المصريون خلالها العدل، وتطورت فيها الأخلاق، وتأسس فيها فجر الضمير. كتبه للأسبوع: مهندس طيران/ إبراهيم فودة