في العام 2016 قامت الهيئة العامة لقصور الثقافة بطباعة كتاب هام للغاية , ( التاريخ الإنساني للسد العالي ) للمثقف والروائي والباحث التاريخي الأستاذ يوسف فاخوري . يقول المؤلف في مقدمة دراسته التاريخية ( لطالما شغلني العرق الذهبي للتاريخ ( الإنسان ) فهو الفاعل الأصيل ,والمفعول به,يتواري في كتب التاريخ ليبرز الحكام كأبطال أو كأنذال ,وفي صمت تنسحب ذاكرة الأمة الي افراد شاء القدر أن يتصدروا المشهد , كأن البشر صانعو الحدث كتلة صماء .) الكتاب عبارة عن شهادات حية لأناس بسطاء عمال , وفنيين , ومهندسين , لا يعرفهم أحد شاركوا في بناء السد , جمع المؤلف شهاداتهم ووثقها توثيقآ حيآ فجاءت معبرة عن مشاعر هؤلاء الأبطال صناع التاريخ بأثر رجعي . كما أورد الكاتب شهادات المسؤليين مثل المرحوم الدكتور عزيز صدقي وزير الصناعة ورئيس وزراء مصر الأسبق , وكذلك السيد حلمي السعيد وزير الكهرباء والمسوؤل الأهم في الإتحاد الإشتراكي العربي . شهادات العمال جاءت كاشفة عن نوعية الحياة في ذلك العصر في مصر بشكل عام, وفي أسوان بشكل خاص ,شهادة العربي ابو عبد الله , وشهادة محمد سنوسي عباس ,وشهادة عبد الراضي عبد الصبور ,ثم شهادة الفنيين مثل جمعة مختار ,ومحمد بطيط ثم شهادات المهندسين مثل وليم كامل شنودة وكذلك علي عبد العزيز صبري ,ثم شهادات من المدينة مثل شهادة محمد حسين مدير العلاقات العامة الاسبق بالسد العالي ووليم كيرلس وكيل البنك الأهلي بأسوان وغيرها . يقول المؤلف (كان السد العالي حدثآ فريدآ في حياة من عملوا في الموقع,عدد من عملوا في السد 34 ألف عامل بالإضافة الي 1700 خبير روسي , وفي حياة النهر الذي لن نري دمار فيضه ,وغرق الأراضي بداية من العام 1964 ,وفي واقع الحياة علي الأرض حتي الآن , والي مدي غير منظور , طوفتن البشر الذي إجتاح مدينة صغيرة كأسوان, عدد سكانها كان 35 ألف نسمةوجعل المدينة خلية نحل لا تهدأ ,تحولت مصائر عمال زراعيين إلي ( اسطوات ) حرف غير التدريب التحويلي الذي تم لهم في مراكز تدريب أفتتحت خصيصآ لهم , أولئك العمال لم تكن لديهم بطاقات شخصية ,وحين راحوا يستخرجونها , كان البعض منهم لديه سابقة قانونية , ولحاجة العمل لعمالة كثيفة , أصدر رئيس الجمهورية قرارآ بألا يعتد بالسابقة الأولي ,وبإتساع حركة التعليم المجاني , تعلم أبناء هؤلاء محامين ومهندسين , وأرتقوا الي مناصب عليا في الدولة .) يرصد الباحث القدير كيف أن السكن كان بجوار موقع العمل , وكيف أن مواصلات خصصت لنقل هؤلاء من مناطق سكنهم الي العمل والعكس بالعكس . وكيف أقيمت لهم النوادي والأنشطة الرياضية والثقافية والفنية , بل أن حفلات أضواء المدينة أقيمت أكثر من مرة هناك بحضور فناني مصر الكبار . يقول الباحث أيضآ أن مشروع السد العالي هو أحد المشروعات التي تم الإستفتاء عليها شعبيآ منذ إستطاع ( ادريان دانينوس ) المهندس اليوناني المتمصر إقناع مجلس قيادة الثورة به بعد فشله في إقناع قادة نظام الملكية أثناء الحقبة الإستعمارية . بدأت الدراسات بتكليف الشركات المتخصصة في بناء السدود مثل شركة هوختيف الأمانية , ومرسيليا الفرنسية , ثم البنك الدولي للإنشاء والتعمير , وكذلك إستدعت الحكومة الخبير الأمريكي المتخخص في السدود ( كيرزاكي ) وبدأت الحكومة بعمل ندوات في المدارس والجامعات والأندية والمصصالح الحكومية , والنقابات لشرح المشروع وما ينتج عنه من فوائد , وكذلك أعراضه الجانبية , وكيفية علاجها . تأتي هذه الدراسة القيمة للاستاذ يوسف فاخوري , بعد أربعين عامآ من الهجوم الشديد علي الحقبة الناصرية بشكل عام , وعلي مشروع السد العالي بشكل خاص . لا ننسي تلك الجملات المسعورة, لتشويه النضال الإنساني لشعب مصر العظيم , الذي استرد قناة السويس , والذي تصدي للعدوان الثلاثس بصدور عارية , وانتصر , وكذك بني السد العالي أعظم مشروع هندسي في القرن العشرين كما قال مسؤلو البنك الدولي للإنشاء والتعمير في العام 2000. كانت أغنية عبد الحليم حافظ ( قلنا هنبني وأدي أحنا بنينا السد العالي ) تلك التي صاغ كلماتها احمد شفيق كامل هي مانيفستو العاملين في السد , فهي كالبيان السياسي يشرح ويحلل ويبني خطوات العمل وأهداف بناء السد والعراقيل التي صادفت عملية البناء , وكذلك المعركة الخالدة التي ارتبطت به. الدراسة التوثيقية في الكتاب مليئة بالتفاصيل الفنية المدهشة , عن عمليات التفجير وكيفيتها , وكذلك علاقة العمال المصرين بالخبراء الروس . يرصد الباحث كيف أن مشروعات أحري ارتبطت ببناء السد كبناء مصنع كيما , وكذلك الإستفادة من محطات الكهرباء لإنارة أسوان أولآ ثم قري ومدن مصر كلها فيما بعد, وأيضآ مصنع الحديد والصلب . في العام 1979 تعرضت دول منابع النيل لجفاف شديد استمر حتي العام 1988وسقط قتيلآ نتيجة للمجاعات مئات الالاف في دول المنبع , ولم يشعر المصريون بأي مشكلة بفضل السد العالي الذي بنته سواعدهم . أذكر أنني كنت طالبآ في كلية الإقتصاد والعلوم السياسية , وكنا نذهب إلي مكتبة الدراسات حيث نسخ المجلات الأجنبية الشهيرة متاحة لكل شخص , وفي العام 1984 رأيت خبرآ علي التايم يقول أن العام 1984 هو عام براءة عبد الناصر من تهمة بناء سد جلب الخراب لمصر كما يزعم بعض الناس . يقول الكاتب القدير ( لم يكن بناء السد العالي مجرد محاولة بترويض النهر بل معركة كاملة , ترتب عليها تأميم قناة السويس وأحداث ضخمة وتحولات طالت كل المجتمع المصري مازالت نغيشها , فقد أعادت للذاكرة المشروعات القومية الكبري التي توقفت بعد محمد علي , وتكونت خبرات إستفاد منها العامل والفلاح والمهندس المصري من قبل , ساهمت فيما بعد في مشروعات في أمكام أخري وبلدان عربية ,وفي حرب أكتوبر , وبناء حائط الصواريخ الذي بناه عمال عملوا في السد بل أن فكرة هدم الساتر الترابي في خط بارليف , تشكلت في خبرات بناء السد بإستخدام خراطيم المياه , وهي فكرة اللواء مهندس باقي زكي يوسف . اليوم ونحن نعيش أجواء بناء سد النهضة الأثيوبي , الذي يعتبر محاولة من محاولات الناهب الدولي لترويض مصر عبر تعطيشها وتجويعها وحصارها , مستخدمآ أدواته الأقليمية , يجيء دور السد العالي وبحيرة ناصر طوق نجاة لمصر وللمصريين سنوات طوال , تحية للعامل والإنسان المصري بناء السد , وتحية للمفكر القدير يوسف فاخوري الذي بذل جهدآ خرافيآ لتجميع شهادات حية وهامة .