لم يكن إعلان وقف إطلاق النار فى ليبيا هو نهاية المطاف، لكنه بداية يمكن البناء عليها، بشروط محددة، ركيزتها الأولى إعلان القاهرة ومخرجات مؤتمر برلين.. إن القراءة الموضوعية للبيان الصادر عن حكومة الميليشيات التى يترأسها فائز السراج وتحظى بدعم تركى- قطرى، تؤكد على عدد من النقاط الهامة أبرزها: - القبول بوقف إطلاق النار بسبب ما يفرضه الوضع الحالى الذى تمر به البلاد والمنطقة وظروف الجائحة. - أن القبول بوقف إطلاق النار مشروط بأن تصبح منطقتا سرت والجفرة منزوعتى السلاح، على أن تقوم الأجهزة الشرطية من الجانبين بالاتفاق على الترتيبات الأمنية داخلها، وهو شرط يعنى نجاح الميليشيات فى السيطرة على سرت والجفرة سلمًا بدلًا من الحرب، حتى يصبح الطريق مفتوحًا أمام دخول المرتزقة والإرهابيين إلى المنطقة الشرقية. - أن إعلان وقف إطلاق النار يؤكد أن الغاية هى استرجاع السيادة الكاملة على التراب الليبى وخروج القوات الأجنبية والمرتزقة، وهذه لغة مطاطة وغير محددة وتعنى بالأساس السيطرة على كامل الأراضى الليبية بواسطة الميليشيات والمطالبة زورًا وبهتانًا بطرد من يسمونهم بالمرتزقة الروس، الذين لم يثبت لهم أى وجود على الأرض الليبية، وغض البصر عن المرتزقة الحقيقيين الذين جاءت بهم تركيا من روسيا ومناطق أخرى، كما أن البيان لم يتطرق لا إلى وقف التدخل الخارجى فى الشئون الليبية أو وقف تصدير السلاح إلى ليبيا والالتزام بقرار الحظر الصادر عن مجلس الأمن فى عام 2011. - الدعوة إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية خلال شهر مارس المقبل، وفق قاعدة دستورية مناسبة يتم الاتفاق عليها بين الليبيين، وهو أمر لا يمكن أن يتم إلا بخروج المرتزقة وحل حكومة الميليشيات، إلا أن حكومة السراج حددت الموعد دون شروط محددة. - تجاهل البيان التطرق إلى إعلان القاهرة ومخرجات مؤتمر برلين، رغم إعلان مجلس النواب الليبى عن التمسك بهما كأساس للحل. - تجاهل البيان دور الجيش الوطنى الليبى بقيادة المشير خليفة حفتر، وهو الرقم الصعب فى المعادلة، مما يدل على أن المؤامرة الجديدة تستهدف هذا الجيش وقيادته فى الأساس. لقد رحبت أطراف عديدة عربية وإقليمية ودولية بهذا الإعلان، على اعتبار أنه يمثل انطلاقة جديدة تنهى مسلسل العنف وتضع حدًا للإرهاب والتدخل الخارجى التركى-القطرى فى الشأن الليبى، إلا أن كافة المؤشرات التالية أكدت أن الهدف هو تكريس سيطرة حكومة الميليشيات والسعى إلى إبعاد المشير خليفة حفتر عن المعادلة ونزع السلاح عن منطقتى سرت والجفرة. لقد صدر بيان مما يسمى ب«المجلس الأعلى للدولة» فى ليبيا برئاسة الإرهابى خالد المشرى، وهو مجلس يضم فى غالبيته عناصر إخوانية وأخرى تنتمى إلى الميليشيات الإرهابية طالب بضرورة ما أسماه بالعمل الجاد من أجل إنهاء حالة التمرد فى البلاد من خلال تمكين حكومة الوفاق من بسط سيطرتها على كامل التراب الليبى، مع الرفض القاطع لأى شكل من أشكال الحوار مع المشير خليفة حفتر، وإنهاء ما أسماه بحالة فوضى انتشار السلاح، وحل كل التشكيلات المسلحة غير المنضوية فى المؤسسة العسكرية النظامية. إن هذا البيان يكشف بلا مواربة عن حقيقة المخطط الذى يستهدف الجيش الوطنى الليبى بقيادة المشير خليفة حفتر وفرض السيطرة على كامل الأرض الليبية بواسطة حكومة السراج بزعم أنها الحكومة التى حصلت على اعتراف الأممالمتحدة. ورغم أن اتفاق الصخيرات قد سقط فعليًا منذ ديسمبر 2017 بمقتضى ما نص عليه فى 17 ديسمبر 2015، إلا أن هناك إصرارًا على التمسك بالاتفاق والزعم بشرعيته.. إذن وفى ضوء شروط حكومة السراج فإن وقف إطلاق النار يعنى إخضاع ليبيا كاملةً لشروط حكومة الميليشيات التى تأتمر بأوامر أردوغان وحكومته.. حفتر هو الهدف من الملاحَظ فى ضوء التصريحات التركية وبعض الأطراف الأخرى المتواطئة أن المشير خليفة حفتر بات هو الهدف بحيث يجرى استبعاده من معادلة الحل المرتقب وذلك لعدة أسباب: - ضرب حفتر واستبعاده من قيادة الجيش فى هذه الظروف يعنى السيطرة على الجيش الوطنى الليبى وتفكيكه وإلحاقه بحكومة الميليشيات. - أن المشير خليفة حفتر ظل ولا يزال هو الرقم الصعب فى معادلة الوضع الليبى، وأن إبعاده يعنى فتح الطريق تمامًا أمام السيطرة على النفط وفتح الطريق لهيمنة حكومة الميليشيات على كامل الأرض الليبية. - أن تركيا ترى أن فرض أجندتها كاملة على ليبيا والسيطرة على ثرواتها لا يمكن أن يتم فى ظل وجود المشير خليفة حفتر على رأس الجيش الليبى. - أن جماعة الإخوان الإرهابية وما يتبعها من تنظيمات وميليشيات تعتبر أن المشير خليفة حفتر هو عدوها اللدود الذى هزمها فى غالبية الأرض الليبية وقضى على العديد من عناصرها. - أن هناك العديد من الأطراف الإقليمية والدولية ترى أن المشير خليفة حفتر هو الداعم الأول للعلاقة الوثيقة مع مصر، وأن ذلك يعوق مخططات هذه البلدان ضد مصر وليبيا على السواء. من هنا يمكن فهم المحاولات المتعددة لاختلاق الأزمات بين المستشار عقيلة صالح والمشير خليفة حفتر بهدف بعثرة الجهود المشتركة وإشعال الفتن والحروب الداخلية بين الطرفين وخلق أزمة بين رئيس البرلمان بوصفه القائد الأعلى وبين المشير خليفة حفتر بوصفه القائد العام للجيش الوطنى الليبى. لقد توقف الكثيرون أمام البيان الذى أصدره المستشار عقيلة صالح رئيس مجلس النواب الذى أعرب فيه عن أمله بأن يؤدى وقف إطلاق النار إلى تحويل مدينة سرت الساحلية إلى مقرًا للمجلس الرئاسى الجديد، على أن تقوم قوة أمنية من كافة المناطق بتأمينها تمهيدًا لتوحيد مؤسسات الدولة، وتساءلوا عما إذا كان ذلك يعنى التوافق مع طلب نزع سلاح هذه المنطقة الاستراتيجية الهامة.. هذا بالرغم من أن مصادر مقربة من مجلس النواب أكدت أن المستشار عقيلة صالح لن يقبل بشروط السراج المطروحة لأن ذلك يتصادم مع المصالح الليبية، والوضع العسكرى، وإعلان القاهرة الذى اعتبره المستشار عقيلة الركيزة الأساسية للقبول بوقف إطلاق النار. إن الملاحظة الجديرة بالاهتمام أنه وحتى كتابة هذا التقرير لم يصدر أى بيان من القيادة العامة للقوات المسلحة الليبية ليحدد الموقف من قرار وقف إطلاق النار، وهو أمر يؤكد أن هناك تحفظات ليست بالقليلة من قِبل الجيش على الشروط المفروضة من قِبل حكومة السراج للتقيد بقرار الوقف.. وإذا كانت مصر قد لعبت إلى جانب واشنطن دورًا هامًا فى التوصل إلى هذا القرار إلا أن مضمون الاتصال الذى جرى فى أعقاب هذا القرار بين وزيرى الخارجية المصرى والألمانى يكشف حقيقة الدور المصرى من البيانات الصادرة من الأطراف الليبية فى هذا الصدد. لقد جدد وزير الخارجية المصرى فى الاتصال أهمية الاستفادة من وقف إطلاق النار فى التوصل إلى تسوية سياسية شاملة للأزمة بهدف استعادة الأمن والاستقرار ومحاربة التنظيمات الإرهابية والتصدى بحزم للتدخلات الأجنبية الهدامة فى ليبيا، فضلاً عن تحقيق طموحات الشعب الليبى ومقدراته. ولاشك أن هذا الموقف المصرى يترجم ما تضمنه إعلان القاهرة ترجمة صحيحة، مما يؤكد أن ترحيب القيادة السياسية باتفاق وقف إطلاق النار لا يعنى أبدًا التخلى عن محاربة الإرهاب وتفكيك دولة الميليشيات ووقف التدخل الخارجى ودعم الجيش الليبى فى مهمته وحماية الأمن والاستقرار على كامل الأراضى الليبية. إن العالم ينتظر التطورات القادمة فى هذا الملف الحيوى والخطير، وإن كانت البدايات تكشف عن أن الشروط التى تطرحها حكومة الميليشيات هى ذاتها التى ستؤدى إلى عرقلة إتمام الحل الذى من شأنه أن يؤدى إلى تفعيل إعلان القاهرة الذى حاز على تأييد ودعم واسع من كافة دول العالم، عدا المتآمرين الذين يستهدفون رهن مصير البلاد لأردوغان وعملائه في الداخل.