لقد كانت مهنة النخاسة علي مدار التاريخ مهنة قبيحة ومن يعمل بها يصير محل احتقار من البشر، ومرجع ذلك ان النخاسين كانوا يتاجرون في البشر الذين كرمهم الله، فهي مهنة الساقطين والفاشلين وعبدة المال ممن خربت ضمائرهم من بني البشر، وقد كان النخاسون يتاجرون في آحاد الناس، ولما اختفت واندثرت تلك المهنه الحقيره، الا ان الحقراء الذين تهوي نفوسهم هذه المهنه طوروه لتصبح النخاسه في الاوطان والشعوب بدلا من ان تكون في آحاد الناس، وعلي امتداد التاريخ عاش نخاسوا الاوطان لكنهم خلعوا رداء النخاسة التقليدي ولبس اغلبهم رداء السياسيين، ولم يكن لهولاء النخاسين وطن او مله معينه بل كانوا بامتداد الاعراق والاوطان والازمنه والمهن، والغريب ان كثير منهم دار حوله الجدل حيث استطاع ان يخفي جرائمه في نخاسة الوطن فافتتن به عوام الناس والسذج من المتعلمين، لكن الة القهر او الة الاعلام او كريزما القياده التي امتلكها البعض منهم استطاعت ان تخدع كل المفتونين والمنبهرين بنخاسي الاوطان، وتصل الماساة ذروتها عندما يكتب اسم البعض منهم بحروف من ذهب علي صفحات تاريخ بعض الاوطان، حيث يزور التاريخ - وكم من احداث زورت بمصرنا الغاليه علي امتداد تاريخها المجيد - لان نخاس الوطن استطاع ان يخدع جميع الشعب حتي الصفوة منهم، وربما غطي الكذب والضلال علي الحقيقه ودفنت رفات الحقيقه في صندوق محكم الاغلاق ومات سرها مع بعض سدنتها الذين لم يستطيعوا ان يعلنوها واضحة للشعب المخدوع او المغلوب علي امره، ولقوا نفس مصير الحقيقة بأن عاشوا وماتوا ولم يسمع بهم احد، انتظارا لمحكمة العدل الآلهيه يوم يقوم الناس لرب العالمين، ودائما ورغم الجرم الذي يرتكبه النخاسون الا ان جرمهم يظل محفورا في ذاكرة الشعوب لكن اسمائهم تذوب من ذاكرة الشعوب. فمثلا اذا سألت إي مصري عن حادئة دنشواي ستجد الكثير منهم يتذكرها كاملة لكن إن سألته عن أسماء نخاسي الوطن في دنشواي ستجد صعوبه في أن يتذكر القليل منهم أسم إبراهيم الهلباوي ذلك المحامي الذي وافق علي انتداب الأنجليز له كنائب عام في القضيه والتي إنبري لها الهلباوي ليصورها علي انها صراع بين ضباط إنجليز خيرين طيبين شجعان وبين فريق من الهمج المتوحشين، ضباط ينتمون لجيش الاحتلال الانجليزي الذي 'حرر' المصري وبين هؤلاء السفله من فلاحي دنشواي.. هكذا ترافع الهلباوي وأنبري جلاد دنشواي في لعبته وخان بني جلدته وصدر الحكم في اليوم التالي إعدام أربعه وجلد اثني عشر اشغال شاقة للباقين لقد قتل الهلباوي شعبه كله، وهل يتذكر احد رئيس محكمه دنشواي بطرس غالي او أحمد فتحي زغلول إحد اعضاء المحكمه والذي كان رئيسا لمحكمة مصر الابتدائية؟ و يروي لنا كتاب 'حكايات من دفتر الوطن' كيف بذل إبراهيم الهلباوي جهدا ضخما في تفنيد كل ما جاء في أقوال المتهمين والشهود ليهدم كل واقعة يمكن أن تتخذ ذريعة للتخفيف عن المتهمين الأبرياء في حادثة دنشواي، وليثبت للمحكمة أن الحادثة أرتكبت عمدا ومع سبق الإصرار، بل إنه فند التقارير الطبية التي قالت إن الضحية الوحيدة في الحادثة وهو الكابتن البريطاني بول، قد مات متأثرا بضربة شمس، حيث استطاع ان يحول الحق ليجعله دليلا للباطل، فانظر المهزله التي ساقها ليدلل بها علي ان المتهمين هم من قتلوا بول، فقال 'ان موت بول بضربة شمس لا ينفي أن المتهمين هم الذين قتلوه لأنهم هم الذين ضربوه، وألجأوه إلي الجري تحت أشعة الشمس اللاهبة 'فهل بعد هذا من نخاسه؟ أضف إلي ذلك أن الهلباوي اتهم المتهم البريء حسن محفوظ بأنه 'لم يكدر قرية بل كدر أمة بأسرها بعد أن مضي علينا 25 عاما ونحن مع المحتلين في إخلاص واستقامة وأمانة.. أساء إلينا وإلي كل مصري.. فاعتبروا صوتي صوت كل مصري حكيم عاقل يعرف مستقبل أمته وبلاده '!! وساكتفي بهذا المثال من بين أمثلة كثيره لنخاسي الاوطان، ولكن أريد للقارئ إن يعرف أن مناسبة هذا المقال هو ما نشاهده من كثرة نخاسي الاوطان في بلادنا.. ففي كل يوم تخرج علينا اسماء - يحسبها الناس كبيره - لاهم لها الا ان تهدم الاخرين، وفي سبيل ذلك لايهمهم ان يتلاعبوا بأمن هذا الوطن وباستقراره وبمستقبله ولا يمنعهم ذلك من إن يمارسوا مهنة نخاسة الاوطان، فكم الكذب والمغالطات والتطاول علي الاخرين الذي يطل علينا ليلا نهار من الة الحقد والضلال الاعلامي الجباره والمغالبات القضائيه الفجه التي تتعارض مع كل منطق سليم، ولا تلمح وسط كل هذا الطوفان الا نخاسي الاوطان يمارسون دورهم بهمة تامه، والاغرب من هذا ان كل المتصدرين للمشهد لايوجد دليل واحد انهم يؤمنون بالديموقراطيه، وجميعهم يلوون اعناق الادله ليدللوا علي صحة منطقهم العقيم، في كل البلاد التي بها نظم ديموقراطيه ونخب تؤمن بالديموقراطيه توجد دائما منطقه وسطي تلتقي عندها الايدلوجيات والافكار والتنظيرات لمصلحة الوطن، لكن ان يكون الحال علي مدار عامين او اكثر انقسام واحتقان كبير فيجب علينا ان نفتش في هذا الجو الكئيب عن نخاسي الاوطان الذين لا هم لهم الا ان يحققوا اغراضهم الخاصه ويعيشوا حتي وان مات الشعب كله، واننا ابشركم بأنه - كالعاده - سيختفي كل هذا العفن وتنتصب مصر مرة اخري متبؤة لمكانتها التي تستحقها وسط الامم. * خبير بجامعة الدول العربية [email protected]