لقد تحولت الأرض في أعوامها الأخيرة إلي كرة من اللهب تضيق بساكنيها شيئا فشيئا، مع تسارع مضطرد في معدلات العنف والجريمة، حتي يظن المتابع للأحداث أن الأرض علي وشك أن تضع أوزارها وتتخلص من حملنا دفعة واحدة بحرب كونية وشيكة لتختم تاريخنا البائس فوق ترابها المعجون بالدموع والدماء غير آسية علي من تبقي منا. كم كنا أغبياء - معشر الإنس - حين قبلنا أن نحمل الأمانة سفاهة وظلما وجهالة، فملأنا الأرض جورا وظلما ورذيلة بدلا من عمارتها، وتحولنا من دعاة عاملين إلي قناصة مأجورين، نطارد أشباحنا في السديم، ونسفك دماءنا فوق كل الطرقات التي عبَّدها الله لنا لنضرب في الأرض ونبتغي من فضله. كانت الملائكة تعلم أن في جيناتنا البشرية ما يحملنا علي الظلم وسفك الدماء، ولم تر حكمة من وراء خلقنا وخلافتنا علي أرض كانت تعرف يقينا أننا سنملؤها جورا وظلما. لكنها، كمثلنا لم تدرك الحكمة الإلهية من وراء خلافتنا الفاسدة الدامية. اليوم، تفسر الأحداث المتتابعة تخوف الملائكة من دمويتنا المفرطة، بعدما لم تترك أنهار الدماء في ربوع كوكبنا المتهالك دربا إلا سلكته ولا وعيا إلا طمسته. ولأننا لا نصبر علي طاعة، كانت بعثة محمد عليه الصلاة والسلام إيذانا بقرب الخاتمة. فسرعان ما عادت طبيعتنا القاهرة للتغلب علي نوازع التعقل والحكمة بعد رحيله، فتحولت البشرية الضالة إلي قطعان من الذئاب الهائمة في شعاب الحياة تبحث عن قنص. حتي الدعاة الذين ترك فيهم النبي ما إن بينوه للناس هدوهم إلي صراط العزيز الحميد، زاغوا واستبدلوا الذي هو أدني بالذي هو خير كأتباع موسي الذين فضلوا الثوم والبصل علي المن والسلوي. اليوم، وبعد أن توحشت غريزتنا الدموية، وتحولت الدماء علي شاشاتنا وفوق كل الطرقات إلي طقوس يومية تذيعها نشراتنا الإخبارية فتشنف بها الآذان وتزداد الهمة والحمية. اليوم، وبعد أن خفت فينا صوت العقل والحكمة حتي لا يكاد يسمع، أرانا نقترب رويدا رويدا من نهاية نستعجلها بحماقاتنا كل حين وآن. لم يعد هناك مهرب إذن من مصيرنا المحتوم، وليس هناك مفر من خاتمة حزينة تذيل خلافتنا المرهقة. كان الأمل معقودا بنواصي الدعاة إلي الله كي يوقفوا زحفنا المحزن نحو الهاوية أو يعطلوه قليلا. كنا نحمل في صدورنا كثيرا من الأمل في قدرتهم علي كبح جماح شهوة التدمير الذاتية في خلايانا المؤتمتة، لكنهم خذلونا وتحولوا إلي رؤوس حراب وراجمات عنف. الخاتمة قريبة إذن أيها الجنس البائس التعس، وقريبا تخرج الشمس من مغربها لتؤذن برحيل أبدي عن سلطة لم نحسن استغلالها فوق أرض تعج بخيرات لم نجن ثمارها تقاعسا، ولم نوزع فيوأها طمعا. قريبا تنتهي خلافتنا علي كوكب سقطنا فوقه ذات معصية، لنغادره بكل أسف عاصين سفاحين. لن ننتظر علامات كبري لندرك أننا إلي زوال بعد أن تحكمت فينا نوازع القتل حتي صار الرجل فينا يقتل لا يدري فيم قُتِل، ويرفع الرجل سلاحه علي أخيه وجاره والصحب بالجنب وابن السبيل. لم يعد بيننا وبين النهاية غير ضغطة عابثة ونعلم يقينا أن الأصابع التي تمتد نحو زرها كثيرة لا تحصي. لم يصبر ابن آدم الأول طويلا، فمضي يبحث عن تراب يواري دمويته منذ أن سقط علي أرض الغواية دون مران، فصار الغراب معلم البشرية الأول، وظل الناس يستنون بسنة قابيل في القتل والدفن حتي عهد قريب. أما اليوم، فقد أطلق ابن آدم الأخير يديه ليعيث في الأرض فسادا فيقتل ويحرق ويدمر، دون أن يكترث بالبحث عن كوة يواري فيها سوءة من قٌتل، لأن ماراثون الذبح صار قاب قوسين أو أدني من إسدال الستار بعد أن أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن سكانها التافهون أنهم قادرون عليها. لكننا يا رب نبرأ إليك من كل من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض. ونبرأ إليك من كل من تلوثت يداه بدماء هابيلية مقدسة. نبرأ إليك ممن يوقظ الفتن ويزرع الحقد ويسعي في الأرض فسادا، ونشهدك يا ربنا أننا لا نحب الفساد.ونبرأ إليك ممن استباح أعناق الرجال وخصور النساء بغير حق، ونبرأ إليك ممن أفسدوا في الأرض وادعوا أنهم مصلحون، ومن كل من أضل الناس علي علم مدعيا أنه يهديهم سواء الصراط نبرأ إليك. فإن أردت اليوم بعبادك فتنة، فاقبضنا اللهم علي وعي غير مفتونين. [email protected]