علي مدار يوم كامل، تحول المعهد السويديبالإسكندرية إلي ساحة مثيرة للجدل والنقاش.. فمنذ صبيحة الثلاثاء الماضي، وحتي نهاية اليوم، شهد الصالون الأزرق بالمعهد نقاشات، ومجادلات، ساخنة.. امتدت لقضايا ملتهبة، إما علي الصعيد الداخلي المصري، وإما بالنسبة لما يشهده العالم من خلافات عاصفة حول حوار الثقافات والأديان. النقاشات التي جرت بالتعاون بين المعهد السويديبالإسكندرية، والاتحاد الدولي لحوار الثقافات والأديان وتعليم السلام 'أديك' جمعت نخبة من الخبراء الدوليين والباحثين والإعلاميين المصريين، وبحضور مجموعات منتقاة من طلاب جامعات القاهرةوالإسكندرية وطنطا، حيث تجاذب الجميع أطراف الحوار، بعمق فياض، ليبحر في أوضاع المجتمع المصري، ويتناول تداعياته المختلفة، ويتناول بمزيد من التأصيل علاقة بلدان العالم، وتشاركها فيما يتعلق بحوار الثقافات والأديان. مائدة مستديرة امتدت لساعات طوال، حملت عنوانين رئيسين: الأول تعلق بالعلاقة بين العلمانية والمجتمعات الدينية، بإدارة السفيرة 'برجيتا هولست' مديرة المعهد السويديبالإسكندرية، والثاني دار حول دور الإعلام في تعزيز التعاون بين الثقافات والأديان بإدارة 'د.علي السمان' رئيس الاتحاد الدولي لحوار الثقافات والأديان وتعليم السلام. في الجانب الأول من الندوة حول العلاقة بين العلمانية والمجتمعات الدينية تحدثت مدير المعهد السويدي السفيرة 'برجيتا هولست' مؤكدة التغيرات التي شهدتها المجتمعات بعد الثورات، خاصة ثورات الربيع العربي، مشيرة إلي أن الانتقال للديمقراطية يجب أن ينضج علي نار هادئة وموضحة أن هناك بعض الاعتراضات في مصر علي عملية احتكار السلطة، وأن الدولة المصرية جابهت في مرحلتها الانتقالية تحديات عدة، وأن أبرز المشكلات التي تواجه مصر في الآونة الراهنة تتمثل في الاستقطاب وعدم قبول الآخر، داعية إلي مد الجسور بين الثقافات والأديان، خاصة أن مفهوم العلمانية في منطقة الشرق الأوسط بات ينظر إليه بشكل سلبي، حيث يجري توصيفه علي أنه ضد الدين أو تابع للغرب. وأشارت السفيرة 'برجيتا هولست' إلي حوار أخير جري في تونس بحضور الشيخ راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة التونسي، والذي قال: 'إنه لا يجب فرض الإسلام من خلال الدولة، بل يجب أن ينمو من داخل النفوس'. وطرحت مدير المعهد السويدي عددًا من الأسئلة للإجابة عنها كمحاور للنقاش حول الخلافات القائمة، وإمكانية انتهاج بعض البلدان العربية للعلمانية، والتيارات السائدة اليوم، وتحديد الفجوة القائمة بين المفاهيم المختلفة. وفي تعقيب أولي أشار الدكتور 'علي السمان' رئيس الاتحاد الدولي لحوار الثقافات والأديان وتعليم السلام 'أديك' إلي دور الاتحاد في رعاية حوار الثقافات والأديان، منطلقًا من باريس، ثم تواصله مع شيوخ الأزهر الشريف، بدءًا من الراحل الدكتور 'جاد الحق علي جاد الحق'، حتي الدكتور 'أحمد الطيب' شيخ الأزهر الحالي، موضحًا وجود فرع في مصر لإدارة الحوار، مستهدفًا التقريب بين الثقافات والأديان. وعلي ضوء ذلك بدأ المتخصصون والخبراء في التحدث أمام المائدة المستديرة واستهلته الباحثة 'روزا كريرر' البرازيلية الأصل، والسويدية الجنسية أستاذ تاريخ الأديان في جامعتي جنيف وباريس حيث أشارت إلي أهمية الاحترام والتعايش بين الأديان، والجدل الكبير حول العلمانية، وهو جدل مستمر عبر التاريخ، موضحة أن الثورات في كثير من البلدان تغير الكثير من الأمور، وملمحة إلي أن التعايش أحيانًا لا يبدو سهلاً، غير أنها أوضحت أن الكثير من البلدان الإسلامية ومن بينها إندونيسيا يبدو فيها الإسلام متحررًا إلي حد كبير، وقالت إن التنوع الديني يجب أن يكون محمودًا وهو لا يعني أن تفقد هويتك بل يجب أن يكون هناك قدر كبير من التأقلم مع الآخرين. وبالنسبة للقوانين العلمانية قالت 'روزا' إنها لا يجب أن تحد من قدرة الدين، بل من الواجب أن نعمل علي تشجيع الحوار بدلاً من محاربة بعضنا البعض، ويجب أن يكون هناك تبادل ثقافي علي مستوي التعليم حتي تعيش المجتمعات بشكل متجانس بين الجميع، واننا بدلاً من الحروب التي نجابه بها بعضنا البعض، يجب أن نعمل علي محاربة الفقر والافكار السيئة. أما الدكتور 'عثمان الطوالبة' السويدي الأردني والمدرس في قسم العقائد وتاريخ الأديان بالسويد فقد طرح السؤال المهم: 'هل تعادي الدولة العلمانية الدين؟'.. ومضي يطرح العديد من الأسئلة: هل الدين هو الحل؟ أم العلمانية؟ أم كلاهما معًا؟.. العلمانية ينظر إليها كمصطلح سيئ لأن الإنسان في هذه الحالة يمكن النظر إليه علي أنه ملحد، ولهذا يتم استخدام مصطلح المجتمع المدني في بلاد الشرق بدلاً من العلمانية.. ولكن يبقي السؤال: كيف نرسم الخط الفاصل بين الدين والسياسة؟ مشيرًا في هذا الصدد إلي تجربة السويد التي تنمو فيها التيارات المعادية للديانات في ظل وجود 500 ألف مسلم في السويد من جراء الهجرات المتزايدة، غير أنه قال إن المسلمين في السويد يتمتعون بحقوق قد لا تتواجد في أي بلد آخر، حيث تنتشر المراكز الإسلامية بالإضافة إلي وجود عشر مدارس إسلامية هناك. وتعليقًا علي ما ذكره الدكتور 'عثمان الطوالبة'، قال الدكتور 'علي السمان': 'عندما نقول المجتمع المدني في مصر فذلك يفهم أنه في مواجهة المجتمع الديني'.. معربًا عن توافقه مع ما قيل حول ما يتمتع به المسلمون من حقوق علي أرض السويد، أما السفيرة 'برجيتا هولست' فقد أشارت إلي أن العلمانية في السويد تبدو أكثر تسامحًا مما هي عليه في فرنسا. أما الدكتور 'عادل درويش' الباحث والإعلامي المصري في بريطانيا فقد طرح العديد من الأسئلة ومن بينها أن لدينا مشكلة فيما يتعلق بالدين هل هو حق شخصي أم ثقافة عامة، وألمح إلي أن بعض القوي السياسية تحاول القضاء علي فكرة الديمقراطية التي أوصلتها للسلطة في بعض البلاد العربية. الدكتور 'عمرو الشوبكي' الباحث بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية أشار في مداخلته إلي أن هناك أصولية دينية وأصولية علمانية، وأن المجتمع الصحيح هو الذي يستطيع بقدر الإمكان الابتعاد عن الأصوليتين، مشيرًآ إلي أن التجربتين الفرنسية والتركية كانتا مختلفتين عن السياق العلماني الموجود في أوربا، وأوضح أنه من المهم الاستفادة من تجربة أردوغان حول حريتي العقيدة والحجاب، وقال إننا في مصر مطالبون بالفصل بين المجالين السياسي والديني وأن ذلك يتطلب ألا يشعر المنتمون للتيار الديني أن لديهم أفضلية لأنهم يستمدون مرجعيتهم من الإسلام. وتطرق الشوبكي إلي السؤال الصعب الذي طرح عليه أكثر من مرة: هل المجتمع المصري قابل للديمقراطية في الوضع الحالي؟.. مجيبًا عن ذلك بالقول: 'أنا مؤمن بإن الديمقراطية هي الخيار الأسلم، لكننا اخترنا أسوأ تحول حدث خلال الأربعين عامًا الأخيرة.. مشيرًا إلي أن أخطاء العامين الماضيين هي سبب هذا الارتباك، وأن خناقة الدستور سوف تستمر، وأننا دخلنا في تنافس سياسي دون وضع القواعد الأساسية للعملية السياسية، متسائلاً: كيف نسمع ونحن في العام 2012 كلامًا عن هدم أبو الهول؟ وما إذا كان القبطي مواطنًا مصريًا أم لا؟.. هذا لا يجوز أبدًا أن يحدث.. هذا الكلام لم نسمعه حتي في عهد مبارك. 'نادر ونيس' ممثل الكنيسة الانجيليكية الذي يدير مركز 'أركان' الثقافي للاتصال بين الإسلام والمسيحية علق علي ما يجري بالقول: 'إن أحدًآ حتي الآن لم يتقدم بحل لتطور المجتمع، وأن ثورة الشباب تم خطفها لصالح أحد التيارات. الكاتب والإعلامي 'مفيد فوزي' تدخل في المناقشات مبديًا دهشته من الموقف السلفي من البابا الجديد تواضروس الثاني، وتساءل: هل يوجد خلاف بين الإخوان والجماعة الإسلامية حول الشريعة الإسلامية؟ الكاتب والإعلامي 'عادل درويش' علق علي ما أشار إليه الدكتور 'عمرو الشوبكي' بما وصفه بخدعة النموذج التركي. الدكتور 'علي السمان' طرح أهمية وضع اقتراحات عملية لكيفية التعامل مع الغد، محذرًا من خطورة تعميم الأحكام في كل شيء، فالأحكام يجب أن تكون نسبية، والقاعدة المهمة هي قبول الآخر.. معلقًا علي أن جماعة الإخوان في السلطة بحكم حصولها علي الشرعية بالانتخاب، لكن ليس لديها تجربة في إدارة الدولة والاقتصاد. 'أفكار الخرادلي' الإعلامية المصرية أكدت أن مصر لا تتحمل في ظروفها الراهنة التجريب في الحكم. الإعلام والحوار في الجلسة الثانية حول دور الإعلام في تعزيز التعاون بين الثقافات والأديان والتي ترأسها الدكتور 'علي السمان' تحدثت الدكتورة 'نعومي صقر' الانجليزية وأستاذة الإعلام في بريطانيا مشيرة إلي أهمية تحسين صورة الجار علي الضفة الأخري من المتوسط ومطالبة بمنع ما قد يفجر مكامن الغضب لدي الطرف الآخر. فيما طرح 'عادل درويش' و'أفكار الخرادلي' العديد من التساؤلات حول ما يجري في مصر ودور الإعلام في التقريب بين الثقافات والأديان، بينما جرت مناقشات ساخنة حول العديد من القضايا المصرية شارك فيها غالبية طلاب الجامعات الذين تمت دعوتهم للمشاركة في المائدة المستديرة. وخلال النقاش قدم الزميل 'محمود بكري' ورقة عمل متكاملة حول دور وسائل الإعلام في تعزيز العلاقات بين الأديان والثقافات طرح فيها العديد من المقترحات كي يقوم الإعلام بدوره المأمول علي هذا الصعيد ومن بينها: إنشاء شبكات للتواصل بين الإعلاميين في العالمين الإسلامي والأوربي. تأسيس روابط تتيح مساحات أوسع للتواصل بين الإعلاميين من جميع أنحاء العالم للرد علي حملات التشويه الإعلامي. تكثيف الزيارات الثقافية والإعلامية بين الصحفيين في العالم الإسلامي وأوربا. عقد دورات تدريبية وحلقات دراسية مشتركة لتقريب وجهات النظر التي تؤكد احترام التنوع الثقافي للشعوب. الكف عن ترويج ثقافة سياسة التمييز العرقي. وضع إجراءات محددة وقواعد صارمة لمنع الإساءة للمعتقدات الدينية والقيم الأخلاقية للآخر. تكثيف البرامج الإذاعية والمرئية، بما يزيل الرواسب التي علقت في أذهان البعض عن الصور الحقيقية للأديان. أن يلعب الإعلام دورًا مهمًا إزاء أسباب انتشار ظاهرة الإسلاموفوبيا. تعزيز ثقافة حقوق الإنسان والتمييز بين حرية التعبير والإساءة للأديان. خلق آليات جديدة من التواصل بين الإعلاميين في العالم الإسلامي وأوربا. الحث علي تطوير المحتوي الأكاديمي للكتب والمقررات لتشجيع التفاهم بين أتباع الأديان وتقريب الثقافات. وضع ضوابط أخلاقية للمواقع الالكترونية. التعريف بالروح السمحة للأديان. وحدد 'بكري' جملة الأهداف المبتغاة للسير علي طريق التقارب بين الثقافات والأديان من خلال: العمل من أجل معالجة القضايا الإنسانية المعقدة. تطوير آليات الحوار ونشر قيم العدالة والتسامح والتعايش السلمي بين الأمم والشعوب. الإيمان بأن جميع الثقافات تشكل جزءًا لا يتجزأ من التراث المشترك للإنسانية. احترام كل الثقافات، وعلي قدم المساواة. الحاجة الآن باتت ملحة أكثر من ذي قبل لأن نبني في عقول البشر 'حصون السلام' التي لا يمكن تشييدها إلا عن طريق التربية والعلم والثقافة. التأكيد علي حرية التفكير والتعبير والإعلام، وتنوع وسائل الإعلام بما يكفل ازدهار أشكال التعبير الثقافي داخل المجتمعات. إن العالم في حاجة إلي إصلاح، وأن العولمة في حاجة إلي ترشيد.. إن الحوار هو سبيل العقلاء واختيار الحكماء دون صدام أو صراع التزامًا بالمواثيق الدولية وفي مقدمتها ميثاق الأممالمتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. إن التسامح المستهدف لا يعني الاقتناع المطلق بالرأي الآخر، ولا فرض رأي علي رأي آخر، ولا يسعي لإكراه الآراء المختلفة علي تبني وجهة نظر ما، ولكن يعني العيش المشترك في ظل الاختلاف. أن يكون الهدف النهائي هو تغيير الفكرة القائمة علي الصراع بين الحضارات إلي نشر السلام وتكريس الحوار كثقافة كونية مشتركة تحمي التعددية وقيم العدل والمساواة، وبناء الإيمان الحقيقي الذي يمنع الظلم والصراع واحتقار الآخرين. ضرورة وجود أرضية داعمة للحوار في كل بلد ترتكز إلي وسائل الإعلام والندوات والمؤتمرات وما إلي ذلك من وسائل.