رغم أن الصين تبدو في محاكاة للنموذج الغربي في بعض مناحي الحياة، فإن قصة الصين حالة فريدة من نوعها وشديدة الخصوصية، فهي نموذج يريد الامتداد لما هو أبعد من النموذج الغربي إلى تأسيس أكبر معامل للإصلاحات السياسية والاقتصادية والقانونية والاجتماعية، يشكل بُعدًا عالميًا للنموذج الصيني الحديث. لا تقتنع الصين بفلسفة هيمنة الديمقراطية على الحياة السياسية، وترى أن الاعتماد كليًة على مبدأ الفصل بين السلطات في المجال السياسي، به نقاط ضعف كثيرة، مع عدم توافر مبدأ المساءلة السياسية. فمثلًا أصحاب المصالح في أمريكا كمجمع الصناعات العسكرية، الذي يمثل قوة رأس المال في البلاد، لا يمكن لهم القبول بأي إصلاحات يمكن أن تتعدى على مصالحهم وسلطاتهم. ولعل كلمات الرئيس الأمريكي أيزنهاور كانت واضحة، حينما ألقى خطاباً شهيراً في نهاية ولايته أنذر فيه مواطنيه قائلاً: إنه ترك فيهم جماعة ضغط عسكرية صناعية قوية جداً، تستطيع الانقلاب على الديمقراطية الأمريكية في أي وقت. وبالفعل أصبح هذا اللوبي العسكري بمرور الوقت هو المسيطر على السياسة الأمريكية. كما أن نموذج الديمقراطية الليبرالية لم يسمح بمساءلة قانونية وسياسية لمن تسببوا في خسارة مواطنى أمريكا ربع ثرواتهم إبان الأزمة المالية العالمية، في الوقت الذى قدمت فيه الحكومة الأمريكية تعويضات بملايين الدولارات لرؤس الأموال التى تسببت في هذه الأزمة. بينا في الصين عاقبت الحكومة 20 مسئولا ومديرًا تنفيذيًا حينما شب حريق في أحد أحياء شنغهاي عام 2015، تلك المقاطعة التي تتفوق على مانهاتن الأمريكية في مجالات الأجزاء الصلبة والبرمجيات. ولذلك فالنظام الصيني مقتنع أن المجتمعات الحديثة تحتاج إلى نوع جديد من المراقبة والتوازنات بين السلطات الرأسمالية والسياسية والاجتماعية وليست السلطات السياسية فقط. ولذا لا تنتهج الصين مبدأ المساءلة السياسية، فحسب بل تتعدى لتشمل المساءلة القانونية والاقتصادية أيضًا، فلا يمكن أن تجد مسئولاً في الصين يتم ترقيته لمنصب أعلى إلا إذا كان مشاركًا بدرجة في النمو الاقتصادي وخلق فرص عمل جديدة، وهو ما حقق طفرة اقتصادية في كل مدن الصين خلال عقدين، على العكس من أمريكا التي تمتلك رصيد صفر خلال العقد الماضي في معدلات النمو الاقتصادي ومعدلات خلق فرص عمل جديدة. عندما نتحدث عن المؤسسات السياسية، فتعتمد الولاياتالمتحدة في النظام الديمقراطي على توريث مقنن للحكم بين أعضاء المنظمات السرية الثلاث ( مجلس العلاقات الخارجية - البيلدربيرج - الهيئة الثلاثية)، تلك العائلة الواحدة التي ظلت تحكم الولاياتالمتحدةالأمريكية منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى، فعلى الجانب الآخر تعتمد الصين في اختيار القيادة العظمى على مبدأ الكفاءة وتاريخ المتقدم للترشح في خدمة الشعب، على أن تشمل فترة القيادة والمناصب فترتين بحد أقصى وفق مبدأ الإجماع. فمثلا أعضاء المكتب السياسي باللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، وهم صناع القرار، أو سمه مطبخ صناعة القرار الصيني. هناك معايير حازمة لاختيارهم، فيجب أن يكون العضو قد مر بفترتين في منصب الوزير، أو حاكم مقاطعة، مع العلم أن أقل المقاطعات الصينية تمثل مساحة أربع دول أوربية مجتمعة، وهو ما يضمن للصين بدرجة كبيرة عدم اختيار قائد غير كفء. ووفقًا لأول دستور لجمهورية الصين الشعبية الذي وضع عام 1954، لم يعد رئيس الدولة تجسيدًا لسلطة الفرد الواحد، مثلما كانت الحال إبان الإمبراطورية الصينية. إذ يمارس الرئيس الصلاحيات وفقا لقرارات المجلس الوطني لنواب الشعب الذى انتخبه، ولجنته الدائمة. أما أعضاء المجلس الوطني فيتم انتخابهم مدة خمس سنوات، من قبل أعضاء المجالس المحلية التي انتخبها الشعب الذي يقوم بانتخاب نواب المجالس على مستوى البلديات والمحافظات، وهؤلاء النواب هم من يقومون بانتخاب نواب المجالس المحلية للمقاطعات والمناطق الذين يقومون بانتخاب نواب المجلس الوطنى الذي بدوره ينتخب رئيس الدولة. بينما تهتم الولاياتالمتحدةالأمريكية بالمصالح والحقوق الفردية، وتستخدم ملف حقوق الإنسان كذريعة لاستهداف حكام ودول يعملون ضد المصالح الأمريكية، ترى الصين أن الاهتمام بالمصلحة العامة والحقوق الجماعية تؤدى إلى نتائج أفضل للدولة، بما ينعكس إيجابًا على مصلحة الفرد وحقوقه الشخصية. ويشبه البروفيسور - تشانغ وي وي - مؤلف كتاب الزلزال الصيني، هذه الفلسفة بطريقة - دنغ شياو بينغ - في مقارنة بطريقة - الأم تريزا - في الهند، إذ يقول: «إن طريقة - دنغ شياو بينغ - نجحت في مساعدة (400 مليون) مواطن صيني في التغلب على شبح الفقر والحصول على حقوقهم الإنسانية كاملة، بينما طريقة - الأم تريزا - التي استطاعت الوصول إلى عدد كبير من الشعب الهندى وحصلت على جائزة نوبل للسلام فالصورة العامة للفقر في الهند لم تتغير»(8). وفي هذا السياق سارت الصين على طريق تنمية حقوق الإنسان ذات الخصائص الصينية والمناسب للصين، وحققت إنجازات عظيمة. فقد نجحت الصين في حل مشاكل الغذاء والكساء ل (1.3 مليار) شخص، وأخرجت أكثر من (700 مليون) من خط الفقر، ما يمثل أكثر من (70% ) من إجمالي سكان العالم المتخلصين من الفقر، وحققت الأهداف الإنمائية للألفية المتمثلة في تخفيض نصف الفقراء، وقدمت إسهاما كبيرا للبشرية في قضية الحد من الفقر. بالإضافة إلى ذلك، توفر الصين فرص العمل ل (770 مليون) شخص، وحققت التغطية الكاملة للتعليم الإلزامي لمدة تسع سنوات، وتقوم برعاية (230مليون) شخص من كبار السن، بالإضافة إلى (85 مليون) شخص حامل للإعاقة. كما ضمنت الصين المعيشة الأساسية ل (60 مليون) من السكان ذوي الدخل المنخفض في المدن، وارتفع متوسط العمر المتوقع من (35 عاما) في عام 1948 إلى (76 عاما) في الوقت الحالي، وأشادت الأممالمتحدة بأن الصين تعد أسرع البلدان نموا خلال السنوات الثلاثين الماضية. كاتب جيوسياسي