في طريقنا من بوابة السجن حتي عنبر '4'.. وما أن اقتربنا من مدخل العنبر في فترة مابعد صلاة العشاء.. وفور أن راح الشاويش 'سيد' يفتح البوابة الضخمة للعنبر.. حتي تنامت إلي مسامعنا أصوات قراءة القرآن الكريم.. من قبل عدد من المعتقلين داخل العنبر.. كانت أصواتهم بعلوها.. وما تحتويه من قراءات ايمانية تبعث الطمأنينة في النفس.. وتهدئ البال والخاطر.. ارتاحت قلوبنا حين استمعنا إلي آيات الذكر الحكيم.. وماهي إلا لحظات حتي دفعوا بنا إلي الزنزانة رقم '7' في الجناح التابع للجماعات الاسلامية حيث كان العنبر يضم مجموعات من الزنازين إلي اليمين بها العناصر السياسية والناصرية واليسارية واخري علي اليسار وبها عناصر الجماعة الاسلامية والتيار الديني بمختلف انتماءاته. أودعونا في الليلة الأولي مع الجماعة الاسلامية في زنزانة رقم '7'.. جلسنا بينهم.. استمعوا إلينا، وما حدث معنا.. وراحوا يقصون علينا ماتعرضوا له من تعذيب هائل منذلحظات القبض عليهم قبل عدة أيام، وخاصة بعد اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات.. وراحوا يطمئنوننا علي أن الجميع هنا في مركب واحد، لا فرق بين التيار الديني والتيار السياسي.. فالحاكم الظالم دفع الجميع خلف القضبان.. ارتاحت نفوسنا كثيراً.. ورحنا نخلد إلي الراحة في هذه الليلة، والتي كانت أولي ليالينا في سجن ليمان طرة. كان النظام في السجن بالنسبة للمعتقلين السياسيين والدينيين يقوم علي أساس أن الزنزانة الواحدة التي لايتجاوز عرضها المترين والنصف وطولها السبعة أمتار تستوعب مالا يقل عن 27 سجيناً.. وهو مايعني أن لكل فرد منا 'بلاطة ونصف' فقط ينام عليها.. ناهيك عن أن نظام السجن لايوجد فيه أسرة، بل مجرد فرش بسيط علي الأرض.. وكان من نظام السجن أيضاً في تلك الفترة من تاريخ مصر أن الزيارات ممنوعة، وقراءة الصحف ممنوعة وسماع الأخبار عبر الراديو ممنوع أيضاً.. بل إن الخروج من الزنزانة ذاتها ممنوع طيلة ال24ساعة ولايسمح فقط إلا بخمس عشرة دقيقة علي مدي اليوم بكامله للتريض والذهاب إلي الحمام. كانت أوضاعًا صعبة ومأساوية بمعني الكلمة.. لكننا رحنا نتعايش مع تلك الأوضاع رغم صعوبتها، ونحاول التغلب عليها وتجاوز آثارها، ورحنا ننخرط في مجتمعنا الجديد وعالمنا الجديد.. نقف علي تفاصيله، ونتعرف علي بنيانه.. ونرسم خيوط المستقبل ونحن قابعون في قلب زنازين نظام الحكم. عند صباح اليوم التالي من إيداعنا الزنازين.. أخرجونا إلي ساحة العنبر ليلتقطوا لنا الصور بأرقامنا كسجناء كما يحدث لكل المساجين في مثل هذه الحالات.. يتم التصوير من الأمام ثم من الجانب حتي تظهر كل الملامح في الملف الخاص لكل سجين في إدارة السجن. وما أن حدث ذلك، وقبل أن يعيدونا مرة أخري إلي الزنزانة حتي رحنا نتوجه إلي غرفة حلاق السجن لنعيد ترتيب حلاقة الرأس بعد أن شوهها حلاق البوابة لحظة دخولنا في الليلة السابقة.. وكانت مفاجأة بالنسبة لنا ان تم نقلنا من زنزانة التيار الديني إلي الزنزانة رقم '9' مع عناصر التيارات السياسية من ناصريين ويساريين.. وهناك تعرفنا إلي العديد من الأصدقاء والزملاء الذين كنا علي تواصل مع البعض منهم قبل اعتقالنا وإيداعنا سجن ليمان طرة. وجوه مختلفة مازلت أتذكر الكثير منها كانت معنا رهينة الحبس.. من بين هؤلاء الدكتور 'عماد الدين ابو غازي' الذي تولي مؤخرآً منصب وزير الثقافة في حكومة الدكتور 'عصام شرف' بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير.. ومنهم 'أحمد النجار' الباحث الاستراتيجي المعروف في مؤسسة الأهرام.. وعشرات آخرون ممن لايتسع المقام لذكرهم.. مثقفون وأدباء.. شعراء ومفكرون.. شخصيات سياسية وحزبية من جميع مناحي العمل الوطني والسياسي.. كانت لحظات فارقة في تاريخ الوطن يصعب أن تنتهي مهما امتدت السنوات.. وتباعدت الأيام.. إلي الغد