'السعادة المفرطة' التي انتابت بعض السياسيين والإعلاميين بعد المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس الأمريكي باراك أوباما مع الرئيس عبد الفتاح السيسي.. تجعلك تشعر ب'القرف'، من حالة التدني التي يشعر بها البعض أمام الولاياتالمتحدة، والسعي الدائم للحصول علي الرضا الأمريكي.. أعرف أن اللوبي 'الأمريكاني' نافذ في العديد من وسائل الإعلام، إن لم يكن في أغلبها، والمحللين والسياسيين المرتبطين بالرأسمالية المتوحشة، مؤثرون في الرأي العام.. الأمر الذي يجعل 'غمزة عين' من السيد الأمريكي، نصرًا عظيمًا. المثير أن المكالمة لم تكن ودية كما يصورها 'دراويش أمريكا'، فقد تحدث السيد الأمريكي بحسب وكالة أسوشيتدبرس عما أسماه بالمعتقلين السياسيين، وأعرب عن قلقه من محاكمات الإخوان وسجن الصحفيين والنشطاء. ورغم هذا التدخل الوقح في الشأن الداخلي المصري، راح 'دراويش أمريكا' يطنطنون بكلمات أوباما علي تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين، والتعازي التي قدمها للشعب المصري بشأن الهجمات الإرهابية الأخيرة!!.. التدخل الوقح لا يتوقف عند المكالمة، فقبلها أعلنت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية 'جين ساكي' أن وزير الخارجية 'جون كيري' لم يتوصل إلي قرار بخصوص برنامج المساعدات الأمريكية إلي مصر بعد قرار الكونجرس بتفويض كيري في صرف المساعدات ودراسة إيفاء مصر بشروط المعونات الأمريكية الممنوحة لها. ناهيك عن الموقف الأمريكي الداعم للإخوان ورفض واشنطن اعتبار الجماعة ضمن المنظمات الإرهابية.. ويبدو أن شروط المعونة التي ينتظر كيري أن تتحقق هي عودة الجماعة الإرهابية للحياة السياسية، والإفراج عما أسماهم أوباما في المكالمة بالمعتقلين السياسيين!!. في المقابل تم التعامل مع مواقف وتصريحات صينية وروسية بشكل فاتر رغم أهميتها، فقبل المكالمة المشهودة، قالت الخارجية الصينية حول زيارة السيسي المنتظرة: 'الصين تعتبر مصر دولة ذات نفوذ وثقل كبير في منطقة الشرق الأوسط وتنظر بإعجاب شديد للخطوات المتقدمة التي قامت بها مصر في عملية تحولها'. وأعرب المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الصينية 'تشين قانج' عن تمنياته لمصر بأن تحافظ دائمًا علي استقرارها وتطورها، مؤكدًا علي عمق الصداقة التاريخية بين البلدين الصديقين علي المستوي السياسي والاقتصادي والشعبي. وكانت هذه التصريحات انعكاسًا لما أكده من قبل 'سونج أيقوه' السفير الصيني في القاهرة قائلا: 'إن بلاده تنظر لمصر علي أنها شريك مهم في عملية التنمية الاستراتيجية، وإن زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي لبلاده، والمقررة في 23 ديسمبر، ذات أهمية بالغة للدولتين'.. بل وصف الزيارة بأنها 'حدث عظيم'. كذلك مرت مرور الكرام مقابلة الرئيس عبد الفتاح السيسي ونائب رئيس الوزراء الروسي 'أركادي دفوركوفيتش'، الذي أكد فيها المسئول الروسي علي مكانة مصر ودورها الريادي في منطقة الشرق الأوسط.. مشيدًا بالشعب المصري وتقاليده الراسخة، ومشددًا علي أن مصر تعد الشريك الرئيسي لروسيا في الشرق الأوسط، بل من أهم شركائها علي مستوي العالم. وقال نائب رئيس وزراء روسيا: 'إن بلاده لديها توقعات كبيرة بخروج زيارة الرئيس بوتين المرتقبة إلي مصر بنتائج إيجابية تتناسب مع متانة العلاقات بين البلدين، وإن الجانب الروسي يعكف علي صياغة اتفاقيات التعاون المشترك التي سيتم التوقيع عليها أثناء الزيارة، فضلا عن اهتمام روسيا بالاستثمار في مصر'. كما أعلن عن التباحث مع مصر بشأن العديد من المشروعات في مختلف المجالات التي تشمل الطاقة وتحديث المصانع التي تم بناؤها في مصر بخبرة سوفيتية سابقة، وتنمية منطقة قناة السويس، بالإضافة إلي التعاون في مجالات البحث العلمي، معربًا عن استعداد بلاده لاستقبال علماء مصريين لإجراء أبحاث مشتركة. رغم كل ما سبق.. صدَّر 'دراويش أمريكا' للرأي العام أن مكالمة أوباما هي الحدث 'الأكبر والأهم والأعظم'، وهي التي تستحق الحفاوة.. وهو ما تسرب للأسف للكثيرين ممن تصوروا أن المكالمة تعني بالفعل تحسن العلاقات المصرية الأمريكية.. وأن مصر تحتاج للرضا الأمريكي 'حتي تعيش!'، غير مدركين أن مصالح القاهرةوواشنطن متعارضة وستظل، وهو ما ظهر علي السطح جليًا بعد ثورة 30 يونية، فالولاياتالمتحدة لن تقبل بمصر إلا تابعًا. للأسف حالة مخزية يروج لها البعض.. كلام فارغ يتردد في كل مناسبة عن 'العلاقات المصرية الأمريكية الاستراتيجية'!!. لقد كتبت وأشرت في أكثر من مناسبة إلي هذه الحالة وأجدني مضطرًا للتذكير بها.. فمع كل إشارة إصبع من السيد الأمريكي نسمع عِبارة: موقف الإدارة الأمريكية بدأ يتغير، وأننا قصرنا ولم نقدم ثورتنا بشكل جيد يفهمه الغرب، وأن هناك سوء تفاهم، وأن الساسة الأمريكان يا عيني اختلط عليهم الأمر!!.. وأن الحياة 'بقي لونها بمبي' بعد الرضا الأمريكي. 'دراويش أمريكا' بوصفهم تروسًا في الماكينة الأمريكية، يحاولون دوما حرصًا علي مصالحهم الضيقة أن يمرروا إلي عقولنا أن الخلاف المصري الأمريكي خلاف عابر أو سوء تفاهم بسيط، وأن المسألة مجرد نجاح جماعة الإخوان في الترويج لمزاعمها، في مقابل فشل حكومي.. أو أن الإعلام المصري أخفق في توضيح الصورة للغرب، وأن المسألة تحتاج فقط إلي مجهود لإقناع آمريكا بسلامة موقفنا!!. في حين أن كل الأدلة والقرائن والمقدمات والنتائج منذ كامب ديفيد حتي عزل مرسي تؤكد لكل صاحب عقل يفكر، أننا أمام عدو أمريكي، يتربص بنا، ولن يقبل بنا إلا مجرد تابعين، وأن كل ما نعانيه بسبب الرأسمالية الأمريكية المتوحشة. أعود وأكرر السؤال الذي طالما سألته: متي توافقت المصالح والأهداف العربية الأمريكية؟!!. أين هي العلاقات الاستراتيجية، والصداقة المزعومة؟!!. هل مصالحنا مشتركة في قضية الصراع العربي الصهيوني؟!.. وهل التقت أهدافنا مثلا في العراق؟!.. في سوريا؟!.. في ليبيا؟!.. في السودان؟!.. في اليمن؟!.. في الصومال؟!.. في أي بقعة علي وجه الكرة الأرضية؟!!. الولاياتالمتحدةالأمريكية لن تفرط في مصالحها التي تتعارض مع المصالح المصرية والعربية.. واشنطن لن تتخلي عن أهدافها وسياساتها وخططها التي صاغتها إداراتها ومراكز أبحاثها عبر سنوات وسنوات. يا أصحاب الهوي الأمريكي، يا من تدَّعون الحكمة والخبرة، يا من ترون أن 'علاقتنا مع الولاياتالمتحدة استراتيجية'، لقد قال الشعب المصري كلمته حاسمة في ثورتين متتاليتين، فلا تصدِّعوا رؤوسنا بخيالاتكم وأوهامكم وغرامكم بأمريكا، أو أغراضكم ومصالحكم. في 25 يناير ثار المصريون ضد الظلم والقهر والاستبداد والفساد، راحوا يطالبون بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية وهم يرفعون صور الزعيم الخالد جمال عبد الناصر عدو الرأسمالية الأمريكية ويرددون كلماته، ويهتفون بسقوط أمريكا، وعملاء أمريكا. وبعد خلع مبارك استولي الإخوان علي الثورة المصرية برعاية وتخطيط أمريكي، وعادوا بنا إلي حظيرة واشنطن مرة أخري، وبدت الجماعة أكثر انبطاحًا وتبعية أمام الأهداف الأمريكية الرامية لتفتيت المنطقة، وتقسيم الوطن العربي.. فكانت ثورة 30 يونية وخروج الشعب المصري بالملايين إلي الشوارع. لقد فرض المصريون واقعًا جديدًا، وفتحوا بابًا واسعًا للفكاك من براثن التبعية الأمريكية، وأصبح هدف الاستقلال الوطني متاحًا وممكنًا، خاصة مع المواقف العربية الداعمة للإرادة المصرية. نحن أمام فرصة عظيمة لصياغة علاقات مصرية أمريكية ندية، وفق معادلة سياسية متوازنة، وأري أن التفريط في ذلك خيانة لإرادة الشعب المصري.. فلم يقدم المصريون الشهداء.. والتضحيات من أمنهم وقوت أولادهم ولا يزالون ليبقي وطنهم أسير الإرادة الأمريكية. وهنا أوجه كلامي إلي الرئيس عبد الفتاح السيسي.. فقد طفح الكيل، ولم تعد أعصابنا تتحمل التدخلات الأمريكية المستمرة والتصريحات المستفزة شبه اليومية، التي تبدأ بالهجوم علي أحكام القضاء ولا تنتهي بالمطالبة بإعادة الإخوان إلي الحياة السياسية. السيد الرئيس.. اطرح جانبًا حكاية 'العلاقات المصرية الأمريكية علاقات استراتيجية'، فلم تكن كذلك في يوم ما، ولن تكون.. فقد عاش المصريون قبل وبعد 25 يناير تجربة مؤلمة وقاسية مع الدوران في الفلك الأمريكي.. هزيمة حقيقية، عاشها الوطن، سياسية واقتصادية واجتماعية، فقر وجهل ومرض وفساد وانهيار قيمي وأطفال شوارع ومخدرات. ارفض المعونة الأمريكية المغموسة بالذل والقهر، استند إلي شعبك الذي خرج بالملايين في 30 يونية و3 و26 يوليو في ثورة لم يشهد العالم مثلها من قبل. السيد الرئيس.. المصريون الذين خرجوا يطالبونك بالترشح واستجبت لرغبتهم، هم أنفسهم المصريون الذين رددوا الهتافات المعادية لأمريكا وسياساتها في المنطقة العربية، وحرقوا علمها وداسوه بالأقدام.. ومستعدون للموت في سبيل استقلالهم.