سمىر غرىب سمعت خطيب المسجد في صلاة الجمعة الماضية يتحدث في السياسة. هذا لم يكن معتادا قبل 25 يناير 2011 . لاحظت طوال عمري دعاء الخطيب بالتوفيق ل " ولاة أمور المسلمين من الملوك والرؤساء ". خطيب الجمعة الماضية لم يدع لهم بالتوفيق . لكنه دعا علي الحركات والأحزاب السياسية التي دعت إلي الإضراب والعصيان المدني يوم السبت الماضي . وصفهم بأنهم " جماعات مخربة " لا تريد صلاح البلاد. مستشهدا بموقف الأزهر ودار الإفتاء المعارض للإضراب والعصيان، علي أساس أنهما مؤسستان دينيتان. كما استشهد بآيات قرآنية وأحاديث نبوية لتدعيم رأيه. يتحدث الخطيب في مكان ديني من منطلق ديني. لا أعرف ما إذا كان خطباء آخرون للجمعة ذاتها فعلوا مثل خطيب المسجد المجاور لمنزلي . الأرجح أنهم فعلوا. وقفت الأحزاب الدينية السياسية والكنيسة القبطية الموقف نفسه. الخلاصة والمعني من هذه المواقف أن الدين ضد ما دعت إليه حركات وأحزاب سياسية من إضراب عام وعصيان مدني. وبالتالي فالداعون هم ضد الدين. تذكرت بدايات أحداث ثورة 25 يناير المجهضة . لم يرفع فيها شعار ديني. ولم يتحدث فيها أحد باسم الدين ، بل انصهر المصريون في كتلة مدنية واحدة مطالبين بإسقاط النظام . فهمت من الشعار الذي هتفوا به في ميدان التحرير حتي 11 فبراير 2011 :" مدنية مدنية " أنه ضد الدولة الدينية ، فلم يكن المجلس الأعلي للقوات المسلحة قد تولي الحكم بعد . فلماذا انقسم المصريون بعد ذلك إلي هذا الحد وكيف ؟ لاحظت أنه في مقدمة الحركات السياسية التي دعت لإضراب السبت والعصيان المدني حركتا 6 أبريل وكفاية . وتذكرت أنهما صاحبتا الفضل الأول في اندلاع ثورة يناير التي اندمج في أيامها الأولي كل الشعب المصري تقريبا . فما الذي جعل المنتمين لهاتين الحركتين يتحولون في نظر كثير من المصريين من " شباب الثورة " إلي "أعداء الوطن والدين" لدرجة أن يدعو عليهم خطباء المساجد؟ انتقل بعيدا عن مصر كلها، وأسافر إلي روما لأشاهد صورة مختلفة . احتفالا خاصا بثورة يناير يومي 26 و 27 يناير الماضي في الأكاديمية المصرية للفنون . رأيت مئات الإيطاليين امتلأت بهم الأكاديمية لحضور معارض وندوات وعروض سينمائية علي مدي اليومين . في اليوم الأول افتتحوا معرضا لاثنين من الفنانين التشكيليين من شباب الثورة الذي شارك في المظاهرات والاعتصام المفتوح حتي رحيل الرئيس السابق . هما الفنانان حسام حسن و إبراهيم سعد . أعمالهما الفنية مستوحاة بالطبع من أحداث الثورة وبخاصة في الميدان . شاهدنا عرض الفيديو الذي مثل مصر في بينالي فينسيا الدولي للفنون التشكيلية في العام الماضي، وهو العرض الذي صممه أحد شهداء ثورة يناير الفنان أحمد بسيوني. انتهي اليوم بعرض أحد الأفلام السينمائية المبكرة عن الثورة وهو فيلم " 18 يوم " شاركت في إخراجه مخرجتان وثمانية مخرجين. بغض النظر عن مستوي الفيديو التشكيلي والفيلم السينمائي ، وهما يشتركان في صفة الملل ، فقد شاركا في صياغة ملامح الصورة العامة التي قدمتها الأكاديمية عن ثورة يناير الشابة . صباح اليوم التالي حضرت مائدة مستديرة مهمة عن ثورة يناير دعي إليها الدكتور عمرو الشوبكي ومحمد أبو حامد من نواب شباب ثورة يناير في مجلس الشعب لكنهما لم يحضرا، وأعتقد أن بدايات انعقاد جلسات البرلمان كانت السبب في عدم حضورهما . لكن الأهم هو مشاركة صحفيين وأكاديميين ومسئولين إيطاليين في الحوار ومنهم: "كوزيمو ريزي" وكيل وزارة الخارجية، و"جمباولو كادالاني"من جريدة" لا ريبوبليكا"، و"ماريا كريستينا باتشييلو" الباحثة في معهد الشئون الدولية، و"باسكوالينا نابوليتانو" عضوة البرلمان الأوربي. في هذا الحوار المهم الذي تضمن وجهات نظر أجنبية عن ثورة يناير المصرية غاب المسئولون في السفارة المصرية في روما من السفير إلي الخفير . لم تحضر سوي سفيرة مصر في الفاتيكان . لماذا؟ لولا دعوة الفنان الشاب حسام حسن علي عجل للحديث في هذا الحوار لاختفت تماما الرؤية المصرية للثورة . سرد حسام بتلقائية ذكرياته عن أيام الاعتصام في ميدان التحرير التي تواصلت حتي تخلي الرئيس السابق عن الحكم . أظهر في سرده روحا مصرية نادرة ولدت في ميدان التحرير من التسامح والتضامن والإخلاص الوطني ، كانت كوهج مرتفع سطع في سماوات العالم كله . سرعان ما اختفي لتحل محله " قهوة بلدي" كبيرة احتلت الميدان ، واحتشد حولها أطفال الشوارع وبلطجية وعاطلون عن العمل وباعة جائلين . ياه .. ما أبعد صورة فبراير 2011 عن صورة فبراير 2012. فلماذا حصل هذا التناقض ؟ لماذا بدأت الثورة بالمناضلين يغنون للوطن في الميدان وانتهت بزبائن يشربون الشاي والقرفة في " قهوة الميدان الكبري " ؟ انتهت احتفالات الأكاديمية بعرض فيلم بديع عن الثورة أيضا هو " الطيب والشرس والسياسي " . وبمعرض مشترك بين طلاب من قسم العمارة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة وأقران لهم من كلية العمارة في جامعة روما " لا سابينسا ". احتوي المعرض علي عشرة مشروعات لإعادة التصميم والتخطيط العمراني لميدان التحرير نتيجة لورشة عمل مشتركة بينهم تحت رعاية الجهاز القومي للتنسيق الحضاري في مصر وبمبادرة من مدير الأكاديمية الدكتور أحمد ميتو . رأيت خيالا خصبا مشتعلا لهؤلاء الشباب في مشروعاتهم . تذكرت المسابقة الدولية التي أعد لها الجهاز القومي للتنسيق الحضاري بالتعاون مع ثماني مؤسسات أخري مصرية أهلية وحكومية ونقابية . وتساءلت : لماذا تم إجهاض هذه المسابقة بعد جهود استمرت عشرة أشهر ؟ إجابات كل هذه الأسئلة الأساسية السابقة وغيرها هي بحث في " ثورة مجهضة ".