في مثل هذا اليوم جاء نجيب محفوظ إلي الوجود بعد ولادة عسرة، قرن كامل مضي، رحلة طويلة مر خلالها بأطوار عديدة منذ أن بدأت علاقته بالقراءة، ثم الكتابة، لمدة سبعين عاماً لم يتوقف عن الكتابة، عايش خلالها الشعب المصري وحياته خاصة في القاهرة، والمراحل التي مر بها وعبر عنها، لم يصور الواقع في ظاهره، إنما نفذ إلي جوهره، تسلم الرواية العربية في بداية تكوينها وعندما رحل كان قد حقق التأسيس والبناء، منذ رادوبيس وعبث الأقدار وحتي أحلام فترة النقاهة. تجربة طويلة أصبحت ركناً في الضمير الإنساني، لا ينكرها إلا جاهل قح، أو أحد أفراد المغول الجدد الذين دمر أسلافهم بغداد الحضارة وصنعوا من الكتب جسوراً في دجلة، هذا ما ينتظر الثقافة العربية الإسلامية علي أيدي أمثال هذا المتطاول الذي كشف عن أمية دينية وأدبية. نجيب محفوظ من المبدعين المعدودين في التاريخ الإنساني ذوي الرؤية الكونية، هناك أدباء يكتفون بالحكي، ولا يعرفون إلا الظاهر، أما أمثال شكسبير ودستوفيسكي وهرمان ملفيل وتشيخوف وكافكا وتوماس مان وغيرهم من الأدباء ذوي المواقف من قضايا الوجود والمصير فإن أدبهم يتجدد مع الزمن ويحمل معان جديدة مع كل قراءة، ومن هؤلاء نجيب محفوظ. لقد اكتشفه العالم متأخراً، منذ عام 8891 عندما حصل علي نوبل، وهو من القلائل الذين تزايدت قيمتهم وتعاظم الإقبال عليهم بعد نوبل، بعكس كثيرين ممن حصلوا عليها وأصبحوا مجرد تاريخ، في جميع مكتبات العالم فتتصدر أعماله واجهات المكتبات، وفي مكتبة الجامعة الأمريكية الآن معرض يضم طبعات مختلفة في أربعين لغة، إنه الأديب العربي الوحيد الذي أصبح كونياً بالمعني الحرفي، لن يطوي النسيان أعماله، بل ستتجدد من عصر إلي عصر ومن ثقافة إلي أخري. عاينت هذا بنفسي، في ألمانيا والمكسيك والصين، وجدوا في عالم محفوظ القاهري، شديد المحلية ما يعبر عنهم، أثبت أن الكاتب إذا عبر بعمق عن واقعه الخاص فإنما ينفذ إلي جوهر الوجود الإنساني، لم يتحقق هذا بيسر، إنما عن صلة وثيقة بالإنسان، وحس مرهف بإيقاع التاريخ، وإلمام بالثقافة الإنسانية، ورؤية تتجاوز المحدود إلي اللامحدود، وجلد ومجاهدة تشبه كثيراً مجاهدة كبار الصوفية الأجلاء من أجل الحقيقة المطلقة، لم أعرف كاتباً أخلص للكتابة مثله بين كل ما عرفت، في بساطته وسر عظمته، وفي تواضعه يكمن شموخه، وعندما يوجد مثله في عصور تشهد موجات من الجهل تسيء إلي الدين، إلي الإنسانية، يكون مصير العباقرة الاستثنائيين المعاناة، وتعرضهم إلي الاغتيال المادي والمعنوي، غير أن محاولاتهم الفاشلة لا تزيده إلا حضوراً وتوهجاً، العالم كله يحتفي به اليوم، وفي باريس التي وصلت إليها منذ يومين تحتل مؤلفاته وصوره واجهات المكتبات. إنه أقوي حضور إيجابي لمصر وللمصريين، إنني لأطالع ملامحه الطيبة أينما وليت الوجه والبصر.