منذ أسبوعين أُغلِق مقهي البستان في وسط البلد ثم افتتح بعدها بقليل. انتشر خبر إغلاقه بسرعة لأن خبر إغلاق المقاهي مرتبط دائما بالسياسة. كنت أنا مندهشا جدا فمقهي البستان معظم رواده من الشباب القادمين لجلسات صداقة أو لتناول طعام من المطاعم القريبة بعيدا عن زحام المطاعم ذاتها أو لمشاهدة مباريات كرة القدم أو لتناول الشيشة أو السجائر بعيدا عن أهلهم. لم يعد هناك كثير من رواده من الأدباء. وبالمناسبة رواده من الأدباء أو الفنانين القليلين ليس بينهم من يعمل بالسياسة. وهم لا يزيدون عن خمسة أو ستة كل يوم مشغولون دائما بلعب الطاولة باستثناء يوم الجمعة تراهم لا يزيدون عن خمسة عشر سرعان ما ينصرفون بعد ساعتين أو ثلاث ولا يبقي منهم غير من يلعب الطاولة. كثير جدا من الأدباء لم يعودوا يأتون إلي المقهي بحكم السن أو البعد عن زحام وسط البلد أو الموت. ومن تجربتي منذ السبعينات فمقهي البستان تحرك إليه الأدباء من مقهي ريش للعب الطاولة فقط فليس به مشروبات ولا طعام ريش. كنت أجلس فيه أنا والشاعر أمل دنقل نلعب الطاولة وحدنا تقريبا. شيئا فشيئا ازداد فيه الأدباء مع إغلاق مقهي ريش أكثر من مرة في الثمانينات كما أنه لم يعد في ريش يوم معلوم لكاتب كبير يتحلق حوله الكتاب كما كان يحدث حول نجيب كحفوظ. باختصار رواد البستان تسعة وتسعون بالمائة منهم شباب عادي جدا أكثره يعمل في أماكن حول المقهي. وأكثرهم جاء ليشاهد مباريات كرة القدم أو للأسباب التي قلتها. طبعا يمكن أن يكون تم إغلاقه لسبب إداري مثل شغل الرصيف أو الممر بينه وبين شارع طلعت حرب لكن بالنسبة للرصيف فهما رصيفان صغيران لا يصل عرض الواحد منهما إلي متر وأحدهما المقابل للمقهي خربان والمجاور مشغول بالجراج أو مخازن محلات القزاز. يعني الجالسون علي الرصيف أمام المقهي لا يزيدون عن عشرة في ضيق ومحصورين بين السيارات الواقفة والمقهي نفسه. أما الرصيف الخربان فلا معني للحديث عنه. إذن هو الممر الذي تُعرض فيه ماتشات كرة القدم بالتليفزيون. هكذا فالأمر مع الحي سهل. يمكنه فرض ما يسمي بضريبة إشغال شهرية أو سنوية حسب القانون. ويمكن للحي أن يجعل مسافة مترين من الممر خالية. انتشر الخبر بسرعة باعتبار أنه بسبب تواجد الأدباء. بينما التواجد الأكبر للأدباء يكون يوم الجمعة كما قلت ولا يزيد عددهم عن خمسة عشر أبدا يتحدثون في الأدب. حضرت أكثر من مرة ولم أسمع حديثا في السياسة. ليس خوفا، ولكن لأن معظم الجيل الشاب من الكتاب لا يشغل نفسه بالموضوع مثل الأجيال السابقة. لكن الخبر أحالني إلي مسألة إغلاق المقاهي بشكل عام. لقد كان إغلاق مقاهي منطقة البورصة خطأ كبيرا جدا فلقد كانت بمطاعمها ومقاهيها متنفسا جميلا للشباب. طبعا هي أغلقت حتي لا تكون مكانا احتياطيا لميدان التحرير ولا يقول أحد غير ذلك لأن كل المسائل الإدارية مع إدارة الحي يمكن حلها. لكن هل كانت وحدها المشغولة أيام الميدان عام 2011 والأعوام الثلاثة التالية له. لا طبعا. كانت مقاهي نصف البلد كلها. في ميدان التحرير وفي باب اللوق وفي الطريق إلي باب اللوق والأزقة المؤدية إلي باب اللوق وفي شارع شامبليون وفي شارع رمسيس نفسه. مقاهي أكثر من البيوت. لقد كتبت منذ عشرين سنة تقريبا مناديا بتخصيص جزء من نصف البلد كمقاهٍ ومطاعم لا تدخله السيارات كما يحدث في أوربا وفي بلدان عربية مثل تونس والمغرب. وحينما حدث ذلك في منطقة البورصة سعدت جدا رغم أني لست من رواد المقاهي من زمان بحكم التقدم في العمر والابتعاد عن زحام الطرق ربما تضطرني الظروف مرة في الشهر للاستراحة من مشاوير أخري وتناول فنجان من القهوة وأمضي. منذ سنوات لم أعد من محبي لعب الطاولة إلا نادرا ولا أشاهد مباريات كرة القدم إلا نادرا أيضا. في المرَّات القليلة التي جلست فيها هناك البورصة - كنت سعيدا جدا بالمكان وبمطاعمه النظيفة الرخيصة. الذين ألغوا هذه الأماكن لأسباب سياسية لا يفهمون أن المقاهي الحقيقية الآن علي الفضاء الافتراضي. علي الفيس بوك وتويتر وانستجرام وغيرها. لم يعد أحد ينتظر أحدا بالمقهي ليتحدث في السياسة. كما أن المقاهي كلها بها كاميرات والله أعلم ربما بها أجهزة تنصت فما معني إغلاق مقاهي وسط البلد واستمراره ؟ المقاهي الجديرة بالعقاب هي مقاهي العشوائيات وشوارع مثل فيصل وما حوله وتشغل الأرصفة. والعقاب الذي أعنيه هو الغرامات بدلا من كلمة الإغلاق السيئة السمعة. لكن هذه المقاهي لا يقترب منها أحد. ما السبب ؟ لا تفسير إلا أنها بعيدة عن ميدان التحرير. ما ذنب الشباب إذا كان ميدان التحرير صار مرعبا هكذا. وهل حين نزل الشباب في ينايرعام 2011 وبعدها كانت الدعوات من المقاهي أم كانت من الفضاء الافتراضي؟ باختصار يعني سياسة إغلاق المقاهي يجب أن تتوقف فالسياسة لم تعد تخرج منها من زمان ولا حركات التجديد في الأدب. ويمكن لأي باحث في علم الاجتماع أن يمرّ علي الشباب لاستطلاع رأيهم في السياسة سيضحكون ويقولون يا عم احنا جايين نضحك مع بعض أو نشرب شاي اتفضل معانا. أو حتي يسأل الأدباء والفنانون علي قلتهم. سيقولون له لما نخلص العشرة الطاولة دي حنتكلم معاك!.