[email protected] هل التفكير خارج الإطار، أو ما يسمونه في الغرب "Thinking out of the Box" هو سر النجاح الكبير ؟ أم التفاني والإخلاص العميق للعمل الذي يهبه المرء حياته هو السر؟ أم هي النزعة الشخصية إلي البناء والأخذ بيد الجميع والارتقاء بمستوي حياتهم وثقافتهم وطموحاتهم أيضاً؟. كثيراً ما راودتني تلك الأسئلة وأنا أتأمل بكثير من الإعجاب وأحياناً الإنبهار لما حققه بعض الرموز الناجحة التي استطاعت أن تصنع فرقاً في الحياة وتؤثر تأثيراً ملموساً في دائرتها الصغيرة من ناحية وفي الدائرة الأكبر والأهم دائرة الوطن. وكان حمدي مصطفي أحد هؤلاء الذين كثيراً ما أثاروا فضولي واجتذبوني للدخول في أعماقهم و الوصول إلي اللؤلؤ المخبوء في بحار تفكيرهم غير التقليدي. تخرج حمدي مصطفي في كلية التجارة جامعة عين شمس قبل حوالي نصف قرن. كان وقتها شاباً مليئاً بالحماس والطموح، علي عكس كل أبناء جيله رفض العمل والوظيفة الحكومية وقرر أن يتعلم من والده سيد مصطفي "أحد رواد صناعة النشر في مصر" أسرار تلك المهنة ويقبض علي مفاتيح النجاح والتميز والريادة فيها. كان ذلك غريباً في ذلك الوقت لكن أصحاب الفكر المختلف يستطيعون أن يروا الهدف علي بعد ألف ميل وهذا ما فعله حمدي مصطفي. وهب حياته بالكامل لتعلم مهنة النشر وكانت وقتها من المهن الرفيعة والمقدرة من كل فئات المجتمع عندما كانت للطبقة المتوسطة قيمة وللمثقفين كلمة وللمتعلمين وزن. وبرع حمدي في التقاط كل الخيوط ربما لأنه كان مخلصاُ كل الإخلاص لتلك المهنة التي اختارها وربما أيضاً لأنه كان من عشاق النجاح فأراد أن يقف علي أرضية صلبة محترمة بناها والده ثم ينطلق منها إلي أفكار أحدث ودوائر أوسع ومكان يتجاوز حدود مصر للقراء في كل أرجاء الوطن العربي. كان "سلاح التلميذ" هو حجر الأساس الذي ورثه عن والده الناشر الكبير. هذه الفكرة المبتكرة التي لم يفكر فيها أحد قبل سيد مصطفي حاول من خلالها أن يكون لدي كل تلميذ أو طالب في مصر مدرس خصوصي 24 ساعة. وصديق مفيد يستطيع أن يشرح له ببساطة المواد التي كان يعجز الكتاب المدرسي عن توصيلها للطلاب بطريقة ناجحة، فكرة براقة لاقت نجاحاً يفوق التوقع فقد كان سلاح التلميذ ولا يزال علي مدي أكثر من نصف قرن هو الصديق الأول للتلميذ في مصر. من نجاح إلي نجاح كتب حمدي مصطفي سيرة إنسان غير عادية فمثل والده لم يكن ناشراً عادياً بل كان مفكراً في الوقت نفسه ابتكر سلاسل عديدة للأطفال والشباب وأصبحت تلك السلاسل جزءاً أساسياً في حياتهم لا يكاد بيت في مصر يخلو من عدة أعداد من كل سلسلة منها. فمن منا لا يذكر "روايات مصرية للجيب" و"رجل المستحيل" و"ما وراء الطبيعة" و"ملف المستقبل" و"فلاش" و"أدبيات" و"زهور" و"المكتب رقم 19" و"فانتازيا" والعديد من الروايات، وفي هذه الرحلة كان النجاح ينتقل إلي أشخاص آخرين حيث تألق في هذه السلاسل كتاب أصبحوا نجوماً لامعين مثل د.نبيل فاروق ود.أحمد خالد توفيق وخالد الصفتي و محمد سليمان عبد الملك وغيرهم، وكذلك لمع مع حمدي مصطفي العديد من الرسامين والفنانين. ومنذ أيام قليلة رحل هذا الرمز الكبير عن حياتنا وشأنه شأن الرموز الباقية في حياتنا ترك الكثير لأحبائه وتلاميذه وقرائه.ترك صرحاً ثقافياً ممتداً .. وإلهاماً مشعاً لا ينطفئ بريقه يذكر كل إنسان بمعني الآية العظيمة "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ" الرعد 17. رحم الله حمدي مصطفي .. أخي الذي أفخر به.