كلنا نتذكر كيف كان رقم »المليون« صعبا وضخما ومثيرا لدهشة الكثيرين لأن كل الأرقام المتعارف عليها كانت بالنسبة له صغيرة هزيلة، حتي أن رقم »الألف« الذي كانت له »شنة ورنة« انزوي خجولا في زوايا التجاهل والاهمال، وهكذا صار من يملك »مليون جنيه« أو أكثر قليلا رجلا بالغ الثراء ينظر إلي الناس من عل، فهو ولا غرو »مليونير« وكفي!! ثم جاءت السنوات الأخيرة لنكتشف أن هذا الرقم الضخم الفخم قد تواضع وأصابه تقريبا ما أصاب »رقم الألف«، ومن ثم أخذ يسعي إلي أن تضاف إلي جواره بضعة أصنار تضيف إليه أية قيمة وحتي لا يظل وحده »مجرد مليون«، إلي أن سقط النظام السابق واكتشفنا أن ثروات أباطرة ذلك النظام قد احتقرت رقم »المليون« وألقته هزيلا في سلة الثروات ويشار إليه الآن بالبنان، وهو رقم »المليار« الذي يعبر فعلا عن الثراء الفاحش المتوحش لمن سرقوا ونهبوا مصر!! ولكن لماذا أتوقف الان أمام هذا الصدام غير المتكافئ بين »المليون« و»المليار«، تري هل أردت فقط أن أوضح الفارق المهول في المستوي الاجتماعي المستفز لمن حكمونا في السنوات الأخيرة ولمن تجسدت فيهم قصة التزاوج غير الشرعي بين السلطة والثروة؟! الواقع أن ذلك ليس هدفي، أو قل »ليس كل هدفي«، إذ أنني أجدني مجبرا علي التوقف أمام رقم المليون الذي اكتسب صفة أخري وازدهي وتألق، وصار رمزا جميلا رائعا لثورتنا المجيدة النبيلة عندما انطلقت صيحة المظاهرات »المليونية« التي احتضنها ميدان التحرير وبقية ميادين مصر، وكانت بحق إعلانا صارما يقول »الشعب يريد اسقاط النظام«، وقد فعلها الشعب وأسقط فعلا رأس النظام وبعض رموزه، وإن كانت ذيوله ومازالت تلعب وتناور وتراوغ وتتآمر إلي أن يتم قطعها بإذن الله وبوعي الثوار، ويشهد التاريخ أن »مليونيات الشعب المصري«، قد ألهمت شعوب العالم المتطلعة إلي الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية حتي أن المظاهرات المماثلة انطلقت في دول عربية وأجنبية، وولايات أمريكية، وحتي داخل إسرائيل التي كانت تتباهي بأنها وحدها ساحة الديمقراطية واذا بالمظاهرات »المليونية« تكشف حقيقتها بما رفعته من مطالب وشعارات تنادي بالحرية والديمقراطية الحقيقية!! إذن تألق رقم »المليون« عندما دخل تحت عباءة المظاهرات المليونية التي ولدت ونشأت وترعرعت علي أرض مصر، وحققت الكثير من أهداف الثورة، لكنني وهذا هو هدفي الحقيقي أشعر ببعض القلق من كثرة المليونيات حتي انها تتناسل »كل جمعة« دون أن يجمعها هدف واحد وشعار واحد كما كانت في أيام اندلاع الثورة، وبدلا من متابعة ما يتم تحقيقه من أهداف الثورة خاصة بعد أن بدأت »محاكمة القرن«، وشاهدنا الرئيس السابق علي سرير المرض والهوان داخل قفص الاتهام، ومعه نجلاه، وحبيبه العادلي! وبعض رجال نظامه، مازلنا نسمع عن مليونيات جديدة صارت مصدر قلق وتوجس وازعاج لبعض الفئات خاصة من أضيرت مصالحهم وتعثرت أعمالهم، سواء منهم من كانت مساكنهم ومحلاتهم تطل علي ميدان التحرير أو الميادين الأخري، أو من يتلهفون علي استعادة انضباط الشارع والمرور والأمن. صحيح أن هدفها هو الرد علي »جمعة سابقة« رفع خلالها السلفيون والإخوان والجماعة الإسلامية شعاراتهم الدينية خروجا علي اتفاق سابق مع بقية فصائل الثورة، وقد يكون لهذه اقوي مبرر لدي البعض، لكن المؤكد أنه لو سارت الأمور علي هذا المنوال بحيث نجد »مليونية« ترد علي أخري، و»مليونية« تتهكم علي »مليونية« فتصف »مليونية حب مصر« بأنها »مليونية توم وجيري«.. إلخ.. فإننا بذلك نكرس مظاهر الاختلاف والانشقاق، وكأننا نضرب ثورتنا في مقتل، لأننا نتيح الفرصة الذهبية للمتربصين المتأهبين للانقضاض عليها واجهاضها. والسؤال الآن: هل يمكن أن نتوقف يا حضرات الثوار عن هذا السباق العبثي الذي يهدد ثورتنا، كما يهدد قيمة ومعني »المليونية« التي بهرنا بها العالم؟!