ثم استطرد «منتظر الزيدي» وهو شخصية مهذبة وواعية قائلاً لي بأن ما لا يعرفه الناس هو أنه اشتري «الحذاء» من «مصر» سوف يظل اسم «نيلسون مانديلا» شامخاً في سماء «القارة الإفريقية» بل والفضاء الدولي كله تالياً لاسم «المهاتما غاندي»، فإذا كان «غاندي» هو بطل «القارة الآسيوية» فإن «مانديلا» هو بطل «القارة الإفريقية» دون منازع، ولقد عشت سنوات طويلة أتذكر الرجل في محبسه ونحن نتابع السياسة الاستعمارية للنظام العنصري في «جنوب إفريقيا» ونسمع عن المظالم التي يمارسها ذلك النظام ضد سكان البلد الأصليين إلي أن سنحت الفرصة ودعي الرئيس الأسبق «مبارك» - باعتباره رئيس « منظمة الوحدة الإفريقية» حينذاك - لحضور الاحتفال الرسمي باستقلال دولة «ناميبيا»، وحضرت اللقاء بينه وبين «نيلسون مانديلا» الذي بادرنا بقوله في بداية الاجتماع إنه كان علي موعد لزيارة «القاهرة» أثناء حكم الرئيس الراحل «جمال عبد الناصر» الذي وصفه «مانديلا» لحظتها بقوله: إنه كان واحداً من الآباء العظام ل»القارة الإفريقية» مضيفاً أن تلبية الدعوة قد جاءت متأخرة لأكثر من ثلاثة عقود فقد كان من المقرر أن يلتقي الرئيس المصري الراحل ب»القاهرة» ولكن ارتباطات «عبد الناصر» وقتها دعت إلي إرجاء المقابلة أياماً قليلة فسافر «مانديلا» إلي إحدي دول «غرب إفريقيا» علي أن يعود إلي «القاهرة» للموعد المنتظر مع «عبد الناصر» بعد أيام قليلة ولكن جري اعتقال المناضل الإفريقي الكبير هناك وزج به في السجن ب»جنوب إفريقيا» لفترة جاوزت سبعاً وعشرين عاماً والنظام العنصري هناك يمارس طغيانه ويتخذ من المناضل الإفريقي الأول رهينة، وسأل «مانديلا» يومها بلهفة عن مناضل مصري معروف هو الوزير الأسبق «محمد فايق» رئيس «المجلس القومي لحقوق الإنسان» حالياً وبدأ يعدد أيادي الوزير «فايق» البيضاء علي حركات التحرير الإفريقية التي كانت تتخذ من العنوان (5 شارع أحمد حشمت بالزمالك) مقراً لها، وعبر «مانديلا» عن رغبته الشديدة في رؤية صديقه المناضل «محمد فايق» الذي أمضي هو الآخر في سجنه عشر سنوات كاملة ورفض أن يكتب اعتذاراً للرئيس الراحل «السادات» حتي يطلق سراحه لو فعل ذلك مثل بعض رفاقه الآخرين، ومضي الرئيس المناضل «مانديلا» يتحدث عن «مصر» ودورها الإفريقي ويتطلع إلي عودة ذلك الدور من جديد وأظهر خلال اللقاء روحاً عالية من التسامح تجاه جلاديه من رموز النظام العنصري الأسبق ودعا إلي مصالحة شاملة في بلاده من أجل التعايش المشترك بين «البيض والسود» مع قبول الأمر الواقع وإنهاء الممارسات العنصرية إلي الأبد، ولازلت احتفظ بصورة لي مع ذلك المناضل الإفريقي نادر الطراز الذي أحال طاقة الحقد علي أعدائه إلي شحنة من السماحة والمحبة تجاه الجميع، وحينما فقد «مانديلا» أحد أبنائه بسبب مرض «الإيدز» واجه الخبر بشجاعة ودعا لأن يكون ابنه شهيداً رمزياً للعمل من أجل مكافحة ذلك الداء اللعين الذي ينهش أجساد الشباب ويقصف أعمارهم في أنحاء «القارة الإفريقية»، وعندما هجر زوجته بعدما خرج من السجن لم يمارس عليها ضغوطاً واقترن بزوجة مناضل إفريقي آخر وكأنما كان قدره دائماً أن يكون مناضلاً محاطاً بالمناضلين، ولقد تذكرت وقتها أن الفيلا (5 شارع أحمد حشمت بالزمالك) مقر «الجمعية الإفريقية» حتي الآن قد خرج منها في مطلع ستينيات القرن الماضي عدد من زعماء الدول الإفريقية حديثة الاستقلال لأنهم كانوا مناضلين في بلادهم ولجأوا إلي «القاهرة» ملاذ الأحرار والأم الحانية علي حركات التحرر الوطني في أنحاء القارة، ولقد أمضي «نيلسون مانديلا» بعد ذلك سنوات كان فيها رئيساً لبلاده ولكنه كان دائماً رمزاً لنضال لا يغيب وإرادة إنسانية لا تتوقف وروحاً متجددة لا تنتهي وقد أبدي تعاطفاً مستمراً مع «القضية الفلسطينية» ودافع عن كل القضايا العادلة في العالم المعاصر وحظي باحترام كبير في «الغرب» الذي ناصبه العداء من قبل وألقي به في غياهب السجن سنوات طويلة لذلك جاء رحيله خبراً مروعاً اهتزت له أركان الدنيا الأربعة ونعاه القادة والزعماء والمناضلون والكتاب والأدباء والمفكرون واعتبر الجميع أن رحيله هو طي لصفحة ناصعة من التاريخ الإنساني لواحد من عظماء القرن العشرين فكانت جنازته مظاهرة دولية في حب رجل عاش ومات في سبيل الإنسان وحريته وكرامته ورفاهيته. «منتظر الزيدي» هل تتذكرون هذا الاسم؟ أظن أن الكثيرين لم ينسوه فقد ملأ الدنيا وشغل الناس لعدة أيام منذ سنوات قليلة، وكنت أتطلع دائماً إلي أن استمع منه شخصياً عن دوافعه ومعاناته وما تعرض له من رد فعل عنيف كاد يطيح بحياته، وقد جاءتني الفرصة في الأسبوع الماضي عندما كنت أحضر ندوة حول «المستقبل العربي» بدعوة من المفكر القومي الكبير د. «خير الدين حسيب» رئيس مجلس أمناء «مركز دراسات الوحدة العربية» وكنت في صحبة بعض الأصدقاء القدامي في مقدمتهم الدكاترة «علي الدين هلال» و»أحمد يوسف أحمد» و»عمار علي حسن» و»سليمان عبد المنعم»، وكانت الندوة ثرية بحشد كبير من المفكرين العرب والرواد القوميين من مختلف الأقطار، وعلمت من صديق عراقي هو الشيخ «جواد» أن «منتظر الزيدي» موجود في «بيروت» فطلبت أن أراه، و»منتظر الزيدي» لمن لا يعرفه هو ذلك الشاب العراقي الذي قذف الرئيس الأمريكي السابق «جورج دبليو بوش» بالحذاء أثناء المؤتمر الصحفي المشترك للرئيس الأمريكي الذي جري غزو «العراق» في عهده والسيد «نور المالكي» رئيس وزراء «العراق» حينذاك، وقد أبلغني صديقي العراقي أن «منتظر الزيدي» يرحب بلقائي وأنه يعرفني وسوف يمر عليّ في صباح اليوم التالي بالفندق، وبالفعل استقبلته في بهو الفندق ووجدته شاباً أنيقاً ووسيماً وجلسنا نحتسي الشاي فطلبت منه أن يحكي لي تفاصيل تلك الواقعة الفريدة من نوعها والتي تعتبر سابقة تاريخية لم يكن لها نظير قبلها، وقال لي «منتظر الزيدي» أنه قال لأسرته قبل التوجه إلي المؤتمر الصحفي أرجو أن تحتسبوني شهيداً لهذا الوطن، ولما رأي «جورج بوش» يتحدث أمامه وبجانبه رئيس وزراء «العراق» كان «منتظر» قد خلع حذاءه استعداداً لما فكر فيه وقام بقذفه فجأة في وجه الرئيس الأمريكي الذي استطاع في الثانية الأخيرة أن يتفاداه وساد هرج ومرج في المكان وكان هناك عشرات من رجال الأمن الذين أخذوا يطبقون علي الشاب الذي ألقي الحذاء حتي كسروا أنفه وفكه وخلعوا كتفه وأصابوه إصابات بالغة وتناقلت وكالات الأنباء الخبر في أنحاء العالم وهي في دهشة من هذه الواقعة الفريدة وتدخل الأمن الأمريكي في التحقيقات واستغرب الضابط الذي يستجوبه من أن «منتظر» المحطم جسدياً من جراء الاعتداء عليه ينطق بكلمات قليلة يسأل فيها فقط عن حذائه وبعدها اكتشف أنهم قد قاموا بتمزيق ذلك «الحذاء» قطعاً صغيرة وألقوها في مكان غير معلوم حتي لا تظل رمزاً لهذه الواقعة بصورة قد تدعو بعض المتاحف الأمريكية أو العراقية أو الدولية إلي الاحتفاظ بها رمزاً تاريخياً لذلك الحدث الذي عبر عن رسالة موجهة من الشعب العربي في «العراق» إلي الرئيس الأمريكي الزائر وصاحب قرار غزو «العراق»، ثم استطرد «منتظر الزيدي» وهو شخصية مهذبة وواعية قائلاً لي بأن ما لا يعرفه الناس هو أنه اشتري «الحذاء» من «مصر» فقد كان في زيارة ل»القاهرة» قبل الواقعة بأيام قليلة وأثناء وجوده في منطقة «الهرم» اشتري حذاء من صناعة مصرية من أحد محال الأحذية في شارع هناك يسمي «شارع العريش»، وأضاف «منتظر» أن ذلك «الحذاء» الذي اختفي أثره بعد الحادث ليست له صورة وهو يرتديه إلا لقطة واحدة احتفظ بها عندما صوره أحد الأصدقاء مرتدياً ذلك الحذاء الجديد أمام «معرض القاهرة الدولي للكتاب» حينذاك وهو يعتز بتلك الصورة لأنها الوحيدة التي يظهر فيها «الحذاء» وهو رمز لواقعة شهيرة لن تغيب عن الأذهان، وقد قال لي إن التحقيقات استمرت معه لفترة طويلة ولما تأكدوا أن دوافعه قومية بإحساس ذاتي وشعور تلقائي ليس وراءها تنظيم سياسي أطلقوا سراحه بعد مدة طويلة ولكن سألوه كثيراً لماذا كان الحذاء صناعة مصرية؟ حتي روي لهم تفاصيل رحلته السابقة إلي «القاهرة».. ذلك هو «منتظر الزيدي» الذي دخل اسمه قاموس الحياة السياسية العربية نموذجاً للثأر الشخصي ممن داسوا تراب «أرض الرافدين». الحصار الإعلامي إن بلدنا مستهدف كما لم يحدث في كل تاريخه وهناك حملات متتالية سياسية وإعلامية الهدف منها تشويه الصورة وإحباط المسار وخلط الأوراق لتعويق مسيرة هذا الوطن الذي كلما حاول التحليق إلي أعلي وجد من يحاول أن يرغمه علي الهبوط بلا سبب غير أنها «مصر» التاريخ والحضارة والثقافة والموقع والزمان والجغرافيا والتاريخ فهي «كنانة» الله في أرضه دائماً، وأشعر أحياناً من متابعة الأخبار والتعليقات المقروءة والمسموعة والمرئية أن هناك حالة تربص شديدة ب»مصر» وشعبها وقائدها فهم يركزون علي الأخبار السيئة في تكرار متعمد ويتجاهلون النجاحات والانجازات، فلقد تم تسميم الأجواء الدولية والأخبار الواردة من أرض «الكنانة» مع حديث مستمر عن انقلاب مزعوم واعتصامات ومظاهرات ودماء وأشلاء في شوارع «مصر»! فلقد استغلت أجهزة الإعلام المعادية لنا وما أكثرها حادث تحطم طائرة «شرم الشيخ» و»مأساة السيول» في شمال البلاد لوصم النظام بالفشل والافتراء علي كل ما فيه، بل وصل الحد ببعض العناصر الهاربة إلي الترويج لحملة دولية لمقاطعة السياحة في «مصر» بل وزادوا علي ذلك بضرورة تشكيل قوات دولية مشتركة لغزو «سيناء» وتحريرها من أصحابها المصريين! وحتي «البرلمان السوداني» ارتفعت فيه صيحات من بعض الأعضاء تطالب الرئيس «البشير» بالتدخل لحقن دماء السودانيين في شوارع «القاهرة» وأنا لا أعلم عم يتحدثون وعلي أي بشر يكذبون وأي دولة يقصدون! ولقد اتصل بي هذا الأسبوع قطب سوداني مقيم في «القاهرة» ليبلغني ما حدث في «البرلمان السوداني» وليبدي دهشته هو الآخر من ذلك الإفتراء المقصود به ضرب السياحة السودانية في «مصر» خصوصاً «السياحة العلاجية» حيث تكتظ المستشفيات المصرية بالأشقاء السودانيين لأن العلاقات بين البلدين التوأم هي صناعة إلهية ولكن هناك أطرافاً تحاول العبث بها في هذه الظروف انتقاماً من «مصر» التي قطعت أشواطاً نحو الاستقرار ومضت علي الطريق الصحيح من «قناة السويس الجديدة» إلي حقل غاز «الشروق» في البحر وصولاً إلي توقيع اتفاقية المحطة النووية بالتعاون مع الشعب الروسي الذي شاركنا ملحمة بناء «السد العالي» من قبل، إنها «مصر» الصامدة التي لا تعرف الانكسار لأنها تندفع بعدها نحو الانتصار!