فلما كانت الليلة الثامنة والثلاثون.. قالت دنيا زاد لأختها شهرزاد: حدثينا يا أخت حديثًا يمتع القلب، فمليكك المسكين مطحون بين أفعال الدواعش المجرمين وأتباعهم من القتلة المفجرين، ولتضعي نصب عينيك نصيحة الدلوعة شويكار، التي قالت في سالف العصر والأوان: «إن الزبون إذا لم يعجبه المحل بيخلع»؛ فهل تريدين لشهريار أن يتركك ويخلع؟ دعك من رأفت العائد بالإيدز من إيطاليا، دعك من أمل، ولا تحكي لنا إن كانت قد التقطت منه العدوي وماتت أو عاشت، والمثل يقول «البكاء علي ما فات نقصان في العقل»، وقبلنا قال الشاعر إيليا أبو ماضي: ليس الوقوف علي الأطلال من خلقي ولا البكاء علي ما فات من شيمي لكن مصرًا وما نفسي بناسية مليكة الشرق ذات النيل والهرم قال شهريار: لا فُض فوك يا دنيا زاد، أراك قد أصبحت حكيمة أكثر من هذه المرأة اللئيمة، لكنني لن أدعها تحكي يا صغيرتي، عندي الليلة ما أحكيه، فقد رأيت في رحلتي إلي الجنوب ما يجعل اللص يتوب، والغريب أن شهرزادي الطروب لم تسألني اين كنت، وأقول لكما إنني عندما غلبني الهم والغم، من تشويش الفضائيات والمواقع والجرائد، لم أعد أعرف الناقص من الزائد.. قلت أمشي في البلاد، أتأمل بنفسي أحوال العباد، فليس من رأي كمن سمع، خرجت لا أطيق ما أسمع وأري، حقد الحاقدين يطوقنا من قدام ومن ورا، وكل من هب ودب يفتي ويهرف بما لا يعرف وأصبح حالي كحال الشاعر عبدالرحمن العشماوي عندما قال: خجلت - ورب البيت - من حال أوطاني فلا الحرب أرضتني ولا السلم أرضاني فلست أري إلا وجوهًا كئيبة ولست أري إلا صراعات إخوان قالت شهرزاد: أراك يا مليكي المسكين وضعت إصبعك في الشق بعد أن اتسع عليك الفتق، جئت تنافسني في الحكاية بدلاً من أن ترفع العصاية، الحكايات يا أخينا عمل الضعيفة والضعيف، أما الملوك فيصدرون الأوامر ويعاقبون الجناة بالفعل العنيف. قال: اسمعي يا سيدة الحكاية، فإن ما أرويه يعنيني، أشهدك عليه وأضعه أمام عيني، وقد استطلعت أحوال العباد من آخر البلاد، رأيت في أسوان الأسواق تنعي زائريها، رأيت نظرة الضيق العزيزة الحزينة في عيون صاحب المطعم والبازار. بعضهم مطوي علي حزنه وبعضهم يستجدي السياح القلال، لو رأيت يا جميلة نظرة الحزن الكليلة لعرفت أن المجرمين لا يريقون فقط دماء من يفجرون فيه قنبلة فيستريح، لكنهم يريقون ماء وجه الملايين من أبناء هذا الشعب الأمين ممن يعملون بالسياحة أو يتصلون بها من قريب أو بعيد، كلهم أصبحوا في الضنك الشديد. قالت شهرزاد: احك.. كيف كان ذلك؟ قال: من أسوان ركبت النيل، أخذت مركبًا سياحيًا، ووضعت علي رأسي برنيطة السياح وفي يدي الكاميرا، ألتقط الصور للوادي الظليل والنيل الجميل. والحق أنهم لم يعرفوني، لكنهم كملك خدموني. طاقم السفينة الذي يتجاوز التسعين يخدم من السياح عشرين، قالوا لنا هذا المركب لم يتحرك منذ أربع سنين وكانوا بوجودنا مستبشرين. وعندما حان وقت الفراق في الأقصر أقاموا لنا الاحتفالات ومدوا السماط بالمشويات والمقليات وامتدت السهرة حتي الصباح. وفي مدينة الملوك العظام لم يكن الحال بأحسن من الحال في أسوان، وجدت أنني النزيل الوحيد في الفندق الفخم الجديد، تخدمني طوابير من الموظفين والطهاة وكأنني واحد من الحكام الطغاة، لكن فرحتهم بي كانت حقيقية، دون أن يخفوا حزنهم أو دعواتهم علي المجرمين الذين يصرون علي خراب بيوتهم. ورغم دفء الشمسن رأيت ملوك الكرنك الضخام يرتجفون من برد الوحدة، وحالهم كما صوره إبراهيم ناجي: ما أسخف الوحدة الكبري وأضيعها إذا الهواتف قد أرجعن ما فاتا تلفت القلب مطعونًا لوحدته وأين وحدته؟ باتت كما باتا! حتي إذا لم يجد ريًا ولا شبعًا أفضي إلي الأمل المعطوب ما فاتا قالت دنيا زاد: أردت يا مليكي أن أحميك من الهم، فإذا أنت تنبش عنه بمنكاش، قال يا فتاتي لم أحك لك بعد عن أوجاع الناس. وأدرك شهريار الصباح فسكت عن الكلام المباح.