الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه والصلاة والسلام علي رسوله المبعوث رحمة للعالمين وعلي آله وصحبه أجمعين وبعد. فواجب ولي الأمر الذي ولاه الله حكم الناس والذي تحمل أمانة المسئولية هو أن يعمل علي توفير الجو الصالح الذي تنتعش فيه الحرية. ويمنع كل اجهزة الضغط والارهاب والخوف. حتي يأمن الناس علي أنفسهم اذا هم أبدوا رأيهم. ويتخذ من حوله بطانة صالحة مخلصة تغار عليه و علي مصالح المواطنين وتعينه علي فعل الخير. وتفتح امامه النوافذ ليري الامور علي حقيقتها ويضع لها العلاج المناسب. ونذكر في هذا توجيها كريما للرسول صلي الله عليه وسلم حيث يقول: »إذا أراد الله بالأمير خيرا جعل وزير صدق إن نسي ذكره وإذا أعانه. وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء ان نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه«. والوزير لا يقصد به معناه المعروف الآن بل كل معين ومستشار موثوق به عند ولي الأمر أو الحاكم »يعني الحاشية أو البطانة« كما تسمي الآن علي كل المستويات لأن هؤلاء إذا كانوا مخلصين للحاكم وللوطن. كانوا خيرا ونعمة للحاكم وللوطن معا. وإذا كانوا غير ذلك كانوا شر بطانة تجر علي الحاكم الذي وثق بهم وعلي الوطن المتاعب ويصبح من الواجب عليه ان يتخلص منهم ويبعدهم عن مواقعهم حتي لا يستمروا في الإساءة إليه وإلي المواطنين.. وبذلك يوفر المناخ الصالح لامته لتشاركه بقلبها ورأيها وعملها في النهوض بشئونها وتحقيق مصالحها. فالتشريعات الإسلامية تتناول الفرد من المهد إلي اللحد. وتتناول الدولة من تنظيف الطرق إلي عقد المعاهدات والأمة الإسلامية بهذا المنهج أمة رسالة تعمل بها وتدعو إليها. ومعني هذا ان الحكم الإسلامي ليس دعوة إلي سيادة جنس من الاجناس ولا هو محاولة لنشر فلسفة أرضية ولا تعاون بين أفراد شعب ما كي يعيشوا في مستوي معين من الغذاء والكساء. إنه دولة تحمي عقيدة وتقيم شريعة وكما يصلي الناس وراء إمامهم في المسجد يعبدون الله ولا يعبدون هذا الامام، يمضي الناس وراء حاكمهم لإرضاء الله وإقامة دينه لا لإعلاء الحاكم واشتباع نهمه في السلطة أو تملقه طلبا لدنيا وارتقابا لمغنم. والأمة الإسلامية هي مصدر السلطات التي تنشأ بين ظهرانيها. أعني انها صاحبة الحق في محاسبتهم، صاحبة الحق في اختيار الرجال الذين يلون أمرها وفي محاسبتهم علي ما يقومون به من اعمال وفي ذمهم أو الثناء عليهم وفي معاقبتهم ان اساءوا وفي عزلهم إذا شاءت. وكلمة »مصدر السلطات« من مصطلحات العصر الحاضر. ونحن لا نهتم بالاسم وإنما نهتم بالحقيقة والمدلول. كما أننا نرفض التلاعب بالالفاظ. إن المسلمين أثبتوا حقهم في اختيار الخليفة أو رئيس الدولة بعد وفاة الرسول صلي الله وسلم مباشرة. وتبين من مسلكهم انه لا خلافة بالاغتصاب أو الانقلاب العسكري. ولا خلافة بالوراثة بعصبية ما تفرض نفسها بأي لون من ألوان الإكراه المادي أو الادبي. إنها بيعة حرة تعمد إلي أكفأ رجل فتقدمه وتراقبه فإن صدق عليه إبليس ظنه فلا طاعة له ولا كرامة. وأي مسلم يأنس من نفسه القدرة علي هذه الرياسة ان يرشح نفسه وإذا أنس القدرة في شخص آخر رشحه. وعرض علي الناس اسمه. إن نبي الله يوسف الصديق رشح نفسه لشئون المال. وقال للملك: »اجعلني علي خزائن الأرض إني حفيظ عليم« يوسف 55 ورشح خالد بن الوليد نفسه لقيادة جيش المسلمين أول الاصطدام بالروم في معركة اليرموك لانه رأي نفسه أعلم بأسباب النصر ورشح عمر بن الخطاب وأبوعبيدة بن الجراح الصحابي الكبير أبابكر الصديق لرياسة الأمة بعد رسول الله صلي الله عليه وسلم وتمت مبايعته. وقد جاءت بعض الروايات والاحداث تخالف ذلك ولها ملابساتها وظروفها الصحيحة، فما روي أن أبا ذر الغفاري رضي الله عنه رغب في الامارة وطلب ذلك من رسول الله صلي الله عليه وسلم ورشح له نفسه ولكن النبي صلي الله عليه وسلم اوضح له أنه ضعيف وانه مع تقواه لا يقدر علي أعبائها. وإنها امانة سيسأل عنها أمام الله يوم القيامة. كما أن النبي صلي الله عليه وسلم رفض ناساً من عشاق الإمارة والسلطة طلبوا منه أن يعينهم في بعض المناصب لانه صلي الله عليه وسلم كان حريصا علي وضع الرجل المناسب في المنصب المناسب ولا يولي رجلا وفي الناس من هو أكفأ منه لأنه بعث ليصحح خط سير الانسانية في هذه الحياة ليجعلها حياة طيبة مثمرة آمنة مستقرة. فيقف بالمرصاد لكل انحراف يبعد بالناس عن هذه القاعدة. وحذر من اندفاع الناس وراء شهواتهم واغراضهم وعدم التزامهم وتهاونهم في وضع الرجل المناسب في المكان المناسب وما يجره ذلك علي الفرد والمجتمع من اختلال الأعمال ونقص الانتاج. وضياع المصالح وتبديد الاموال. فقد جلس صلي الله عليه وسلم يوما بين اصحابه يعلمهم ويرشدهم فقال لهم: »إذا ضيعت الامانة فانتظر الساعة« فقالوا للرسول: وكيف اضاعتها يا رسول الله؟ قال: »إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة« أي إذا أسند العمل لغير المتخصص فيه الذي يجيده ويحسنه فانتظر ساعة هذا المجتمع. إن المتطلعين إلي المناصب الكبيرة كثيرون. والذين يحسنون الظن بمواهبهم والأمة وحدها هي التي تنتخب من تتوسم الخير علي يديه. وتراه أقدر علي مقاليد الحكم.. وأجمع لخلال القوة والأمانة. ومن السفه تصور ان الإسلام يكره الناس علي قبول حاكم لا يرضونه لأنه منحدر عن عائلة كذا أو أنه ينتمي إلي قبيلة كذا أو لأنه ذو خبرة في كذا وكذا. واتفق المسلمون علي تسمية الدولة الإسلامية الأولي ب »دولة الخلافة الراشدة«، كما اتفقوا علي سلب صفة الرشد عن حكومات الأسر القوية أو العائلات الكبيرة التي هيمنت علي التاريخ الإسلامي فيما بعد. لقد جاء في السنة النبوية الشريفة أن الله لا يقبل صلاة رجل أم قوما وهم له كارهون. والصلاة عبادة ميسورة الأداء يقدر عليها الصالح والفاجر. أما الرياسة العظمي للأمة الإسلامية، أو ما قاربها من مناصب حساسة فهي عبء هائل والاستيلاء عليها بوسائل ملتوية سمجة بلاء ساحق ولعله السبب الأول أو السبب الأوحد في طي ألوية الإسلام شرقا وغربا. الخلافة نظام بعيد عن الفرعونية والكسروية والقيصرية. والخليفة رجل تختاره الأمة أي انه جاء برضاها وهي التي تقرر مبلغ وفائه لرسالتها ودينها فتستبقيه ما وفي وتستبعده إن عجز. أو كما عبر بن حزم »إنه الإمام الذي تجب طاعته ما قادنا بكتاب الله وسنة رسوله. فإن زاغ عن شيء منهما منع من ذلك. وأقيم عليه الحد والحق فإن لم يؤمن أذاه إلا بخلعه خلع وولي غيره«. وهذا هو ما نقصده بكلمة »الأمة مصدر السلطات« ولا يجرؤ أحد علي إنكار ما قلناه فما قلناه وما قررناه هو ما تزعمه إن صدقا وإن كذبا شتي الانظمة الإنسانية الحديثة. وقد رأيت وسمعت بعض المتدينين قلقا من هذه الكلمة »الأمة مصدر السلطات« وربما أنكرها. لماذا؟ أحسن هؤلاء المنكرين حالا من يقول: إن الكلمة تعطي الناس حق التحريم والتحليل وهو الله وحده. وما من مسلم ينكر أن هذا الحق لله وحده. ولكن ما علاقة هذا الحق المقرر لرب العالمين بمبدأ اختيار الأمة لحكامها. وإخضاعها لسيطرتها؟ لا علاقة. فالأمة الإسلامية المؤمنة بكتاب ربها وسنة نبيها لن تخرج عنهما أبدا بل إنها هي التي تحاسب من يخرجون. وهناك متدينون محصورون فيما ورثوا من ضروب الافتيات والتجاوز للكلمات في آذانهم طنين غامض. وهم علي استعداد لاتباع اي حاكم جاء من اي طريق. حتي لو كان عن طريق المستعمرين. مادام يقدم لهم الكلا والعشب أو المن والسلوي. فهؤلاء لا دين لهم ولا دنيا تدوم معهم لأنهم باعوا دينهم بدنياهم ولنستمع ونتأمل في أول خطبة ألقاها الصديق أبوبكر رضي الله عنه بعد انتخابه أميرا للأمة كلها: »أيها الناس. إني وليت عليكم ولست بخيركم. فإن أحسنت فأعينوني. وإن أسأت فقوموني. الصدق أمانة والكذب خيانة والضعيف فيكم قوي عندي حتي أخذ الحق له إن شاء الله. والقوي فيكم ضعيف عندي حتي آخذ الحق منه إن شاء الله. أطيعوني ما اطعت الله ورسوله فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم«. فهو يخبر الناس انه واحد منهم لا يتعالي ولا يتكبر وإنما هو الذي يخدمهم وينظم شئون حياتهم ويرعي مصالحهم. وأن الناس عنده سواسية. الحق هو الذي يسود بينهم والقوي الضعيف أمامه سواء. وأنه خليفة لينفذ الشريعة ويقيم العدل بين الناس فإذا تكاسل عن ذلك أو غفل عن خدمة الناس فلا طاعة له عليهم. تدبر مرة أخري هذه الكلمات وهذا العهد الذي قطعه علي نفسه الخليفة المختار من الأمة ليقول لها إنه منها ويطلب عونها إن أحسن وتقويمها إذا أساء ويتعهد بإعزاز الضعفاء حتي يبقي لهم حقهم وقمع الأقوياء حتي لا يرتعوا في حقوق غيرهم. ويختم كلماته بأن طاعة الناس له مرهونة بطاعته لله ورسوله أي بإقامته للكتاب والسنة وإلا سقطت طاعته. أهناك اعتراف بسلطان الأمة ورقابتها اصرح من هذا الاعتراف؟ إنه ليس سلطانا ينظر إلي الناس من أعلي. ويرتقب منهم أن يسارعوا اليه زلفي. إنه رجل يطلب من الأمة أن تمنحه راتبا يطعم منه هو وأهله. فهو هو أبوبكر الصديق في اليوم التالي لاختياره للخلافة يحمل علي كتفه أثوابا ليبيعها غاديا إلي السوق فيقابله عمر بن الخطاب وأبوعبيدة بن الجراح رضي الله عنهما ويسألانه إلي أين فيقول إلي السوق لأطعم عيالي فيقولان له لقد أصبحت خليفة للمسلمين فاعمل علي حل مشاكلهم. فيقول لهم: ومن أين أطعم عيالي؟ فيقولان له سنفرض لك راتبا من بيت المال. إنه خليفة وليس لصا كبيرا جدا يضع يده علي مال الله ومال المسلمين ويومئ إلي الخدامين والمداحين فيهرعون إلي ساحته. وقد رأينا في الخلافة الراشدة كيف يقترب الخليفة من الناس ويلتمس النصح والعون وكيف ينفر من مظاهر العظمة الفارغة. ويري الخيلاء جريمة والتواضع تقوي. وأول معالم الدولة الإسلامية الشوري وطلب الصواب عند أهله والانصياع للحق اذا ظهر وتوفير الجو الذي يحق الحق ويبطل الباطل. والشوري خلق إنساني رفيع محمود في المجتمعات قديمها وحديثها ومعروف في نظم الحكم من قديم وإن خرج عليه كثيرون وتمرد عليه مستبدون. روي البغوي عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رجلا اكثر استشارة للرجال من رسول الله صلي الله عليه وسلم. وهو إنما يستشيرهم في أمور الدنيا والمصالح العامة مما لم ينزل فيه وحي. إن أجهزة الشوري المنظمة المحترمة الملتزمة هي التي تحفظ حدود الله وهي التي تأخذ علي أيدي الظلمة وتقي الأمة شرهم. وتنفيذ قول الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم: »إن الناس إذا رأو الظالم فلم يأخذوا علي يديه أوشك ان يعمهم الله بعقاب منه«. ومن معالم الدولة الإسلامية حفاظها الشديد علي حقوق الإنسان المادية والادبية وتوفير الأمن للأفراد والجماعات. والترهيب من إيذاء أحد أو ترويعه. وجعل حرمة الدماء والاموال والاعراض كحرمة البيت الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام أو أشد. وإقرار العدل مع المؤيد والمعارض والقريب والغريب والغني والفقير. وتهديد الأمة جمعاء بالهلاك إن هي اتبعت الهوي واستمرأت الفساد. »وما كان ربك ليهلك القري بظلم وأهلها مصلحون« هود 127. ولما كانت للسلطة ضراوة كضراوة الخمر، فإن النبي صلي الله عليه وسلم حذر الحكام من الميل مع الهوي فقال: » صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي: إمام ظلوم غشوم، وكل غال مارق« والغلول هو الاختلاس من المال العام. ومن هنا نفهم ما رواه ابن عباس رضي الله عنه ان رسول الله صلي الله عليه وسلم بعث معاذا إلي اليمن أميرا عليها وقال له: »اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبني الله حجاب«. ويستوي أن يكون المظلوم مسلما أو غير مسلم كما جاء ذلك مصرحا به في روايات اخري. أما رئيس الدولة أو الخليفة الصالح الوفي للأمة ورسالتها، فإن محبته عبادة وتوقيره دين. وتأييده واجب علي جمهور المؤمنين. أليس هو الساهر علي مصالحهم الناهض بأعبائهم. لقد جاء في السنة أنه أول السبعة الذين يظلمهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله كما جاء عن عمر بن الخطاب ان رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: »افضل الناس عند الله منزلة يوم القيامة إمام عادل رفيق وشر عباد الله منزلة يوم القيامة إمام جائر خرق« يعني أحمق. ومن شدة رحمة الرسول صلي الله عليه وسلم بأمته هذا التحذير الذي وجهه لرعاتها حيث قال: »ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لها إلا حرم الله عليه الجنة« وفي رواية »لم يجد رائحة الجنة« حتي إذا استطاع أن يموه علي من تحت يده من الرعية ويوهمهم أنه يعمل لمصلحتهم وهو يغشهم فإنه لن يفلت من عذاب الله ولن يجد رائحة الجنة. ومن هنا كان إحساس الخلفاء المتقين الصالحين بعظم مسئوليتهم وخوفهم من حساب الله لهم فوجدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: والله لو عثرت دابة في العراق لسئل عنها عمر يوم القيامة لم لم يعبد لها الطريق؟ وحين رشح أحد الصحابة ابنه عبدالله بن عمر في المرشحين بعده رفض عمر وقال: كفي آل الخطاب واحد منهم يسأل عن أمة محمد يوم القيامة. فهل ينتبه كل مسئول في يده أمر من أمور الأمة إلي هذا الحديث ويضعه نصب عينيه ويرجو من الله الرفق والسلامة. ويرفق بهذه الأمة ويرعي مصالحها.