لم يعد ممكنا أن ينعم المرء في بلدنا الميمون، ولو بنوم، لا تطوله ضوضاء صارت توزع في كل مكان وآوان علي الجميع.. كل ونصيبه منها. ومن أمثلة هذه الوفرة في حصاد كم غير قليل من الازعاج العشوائي، سلامة نية من يقع تحت تأثير تلك الاعلانات الملونة الجاذبة التي تسوق عقارات الأحلام، خاصة تلك التي تشرف علي حمامات سباحة أو مساحات فضاء يتم تسميتها حدائق.. إلي حين، ليقتني مسكنا حولها، وما أن تمر فترة وجيزة حتي يكتشف أنه قد اشتري »الترماي« بعد ان يتيقن إن راحته قد اقترنت بمزاج الغرباء عنه، ممن يتمكنون من خلال منظومة فوضي سلوكيات عششت في ربوعنا وما نعكسه من جدب علي تصرفاتنا، أن يحولوا كل مكمن لراحة نفس إلي سجن تكون فيه رهن حبس. وبالمخالفة مع نظم وآداب الأغيار من الأمم، وعن أي مجتمع متحضر، وبما يقننه من أنماط معيشية يتبعها الجميع إتباع المؤمنين بدين، لا يشعر الكثيرون لدينا بفروق، توقيت تفصل ما بين نهار وليل، أو ضياء وظلام، وما يفعلونه في هذا لا يتورعون عن فعله في ذاك، بغض نظر عما يسببه ذلك عن ازعاج للغير. وما أكثرها تلك الآلات أو الأجهزة التي يرفع البعض منا أصبع حكمة مؤممة، واصفا إياها بالبدع، التي وضعنا سمعتها في حضيض بعد ان جلبناها لمجتمعاتنا، فاستخدمها الجهلاء منا علي نحو يخالف ما ابتكرت من أجله، مسلطين إياها علي بعضنا البعض بقسوة، لننفرد في هذا المجال بسيمفونية من التبلد المحلق علينا دون اعتبار لأي آداب اجتماعية أو دينية تحث علي ضرورة مراعاة مشاعر الآخرين. ولا يسع دهشة المرء إلا الوقوف إلي جانبه عاجزة عن شروح تبرر هذا الانفلات الصوتي، عجز يجبر في النهاية إلي استجداء شباب للكف عن استخدام مسبح يطيب لهم عروجا إليه بدءا من منتصف الليل حتي الساعات الأولي من الفجر! أو تسكعا ووقوفا بسيارات تصدر موسيقي صاخبة، لا تزيد علي ترددات آلية قبيحة لا تسر إلا أذواق ناقصة وعقول تالفة، ناهيك عن اصوات ضحكات وقهقهات تتفاوت في قوتها ما بين نقيق ونهيق يتخللهما من حين لآخر أخري أنثوية قريبة لتلك التي تضرب مرضي الهيستريا، دون احترام يذكر لأوقات خصصها الله لراحة من ينامون من غالب باقي خلقه العاديين. ثم يجئ أذان الفجر يكنسهم، فينتبهون كخفافيش إن النهار بازغ، بضياء يعافونها، يقصد فيها الناس إلي صلاة في مسجد أو يفرشون تقربا إلي الله في بيوتهم السجد، فينسحبون عندئذ كأفاع عائدين بهدوء إلي جحورهم، لكي لا يوقظون النيام من الأهل الأعزاء، من نوم المفرطين في تربية أجيال تائهة، ومن سبات من يوطنون ثقافات نثر بذور عقيمة لا يرجي منها زرع ولا طرح. ورحم الله مؤرخنا الشيخ الجبرتي، راصد أحوال مصر خلال الحملة الفرنسية، الذي نقل بدقة إشارات علمائها إلي بعض خصالنا، ومنها بإننا »شعب حنجري« حباه الله بصوت يجعلك تنصت إلي كامل حديث مواطن يتحدث في »بدعة« محمولة وأنت علي الرصيف المقابل للذي يقف عليه في الناحية الأخري من الشارع. وربما يسر الشيخ أن يعلم إنه مع ما أصبناه من تقدم، فإننا اصبحنا لا نستخدم الحناجر فقط في الحفاظ علي هذه السمة الغالية في صناعة اللامنقطع من الضجيج، بل استحضرنا من عند الفرنسيس وغيرهم، كل »بدعة« من شأنها الحفاظ علي هذه العادة الكريمة، لا قطعها الله، بغض نظر فج عن قوله تعالي: »هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا«... ولكننا نجحنا بدون شك وبجدارة في اختراع الخلطة السحرية بين الاثنين!