صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي. السيدات والسادة يُسعدني أن أتحدث إليكم اليوم في افتتاح فعاليات منتدى الإعلام العربي في دبي، ويطيب لي أن أكون في دبي التي استطاعت بكل جدارة أن تكون ملتقى ثقافي وفكري وسياحي وتجاري وحضاري دائم... بفل همة أبنائها وحكمة ورؤية قادتها. واسمحوا لي في البدايةِ أن أُعربَ عن شكري وتقديري إلى أسرة منتدى الإعلام العربي التى بذلت جُهدًا مُتميزًا على مدى ثلاثة عشر عامًا... جعل البداية الطموحة في عام 2001 نجاحًا باهرًا في عام 2014... وأَضْحى منتداكم واحدًا من أهم المنتديات التي يتطلع إليها الساسة والإعلاميون للوقوف على حقائق المشهد، وآفاق الحركة. السيدات والسادة لعلكم تُتَابعون تلك التحولات الكبرى التي تتوالى – دُون توقف – في عالم اليوم. ولعلكم تابعتم السياسة في بعض جوانبها، وتابعتم الاقتصاد في جوانب أخرى... وربما أَخَذَ اهتمامَكم تطورات القوةِ الصلبة، أو مستجداتِ القوةِ الناعمة. ومن المؤكد أنكم تشاركونني الرأى أننا إزاء عالم جديد... وربما إنسان جديد... وأن ما مضى من التاريخ قد يصبح هامشًا محدودًا إزاء مستقبل لا يزالُ قادرًا على إدهاشنا على مدار الساعة.. وعلى امتداد العالم. إنني أتَذكر كيف كان أبناء جيلى يتطلعون إلى استمرار التميز وإلى سرعة الإنجاز.. وأتذكر حواراتنا ونحن نُخطط لأن نتجاوز المكان.. ونسبق الزمان... واليوم فإنني أجد أن إيقاع أحلامنا كان بطيئًا للغاية إزاء إيقاع عصرٍ وخطوات عالمٍ ذهبَ مُهرولاً من "الخيال" إلى "ما وراء الخيال". لقد استغرقت بريطانيا مائة وخمسين عامًا لمضاعفة إنتاجها، واستغرقت ألمانيا ستين عامًا، واستغرقت الولاياتالمتحدة ثلاثين عامًا، واستغرقت الصين خمسة عشر عامًا في الدورة ذاتها.. وسيظل سكان العالم يسألون كل يوم: وماذا بعد؟ السيدات والسادة اليوم نجدُ أنْفُسنا وَسَط الحداثة وما بعدها.. ووسط العولمة وما حولها.. نشهد انكماش الجغرافيا وكثافة التاريخ. ونجد أنفسنا – مع ذلك كله – وسط ثورة إعلام ومعلومات باتت فوق الطاقة... وفوق المُستطاع. لقد شهد جيل والدي الإذاعة المصرية التي انطلقت في الثلاثينات، وشهد جيلي التليفزيون المصري الذي انطلق في الستينات.. واليوم نُتابع أعداداً كبيرة من الإذاعات والقنوات.. والصحف والمواقع.. أُضيفت إليها صفحاتٌ وحسابات. لقد أصبح ريموت التليفزيون أكثر حظاً.. ذلك أن ما يأتيه من قنوات – دونما جهد – يتزايد كل عام على نحو مذهل. فَمِن (700) قناة فضائية عربية عام 2010 إلى (1320) قناة فضائية عربية عام 2014.. ومن (34) قناة إخبارية إلى (66) قناة إخبارية في ثلاث سنوات! يتوازى مع ذلك ثورةٌ مستمرةٌ في عالم الانترنت... حيث يحتشد نصفُ سكان العالم تقريبًا أمام شاشاتٍ كانت تَحْفل بموقع واحد قبل ربع القرن، صارت تشهد تراصّ الجماهير الغفيرة على صفحات الفيس بوك وحسابات تويتر.. وصور الانستجرام.. بينما أصبح مئات الملايين حول العالم يعيشون حياتهم وحياة الآخرين.. عبر مقاطع يوتيوب اللانهائية. السيدات والسادة لقد أصبح الإعلام الالكتروني واحدًا من حقائق العصر الكبرى، وأصبحت إعلاناته تصل فى بعض الدول إلى عشرات المليارات من الدولارات، وحصلت إحدى الصحف الإلكترونية على جائزة بوليتزر للصحافة في العام نفسه. ولكن ذلك لم يُخرج الصحافة الورقية من مكانتها.. فعلى الرغم من إغلاق صحف ومجلات، وتحول بعضها من ورقي إلى إلكتروني، فإن توزيع الصحف المطبوعة يوميًا يتجاوز (400) مليون نسخة. إن زحام الفضائيات والصحافة الالكترونية والمطبوعة.. قد تحول في بعض الأحيان إلى ما يطلق عليه "محنة وفرة المعلومات".. وهى المحنة التي تؤدي فيها وفرة المعلومات إلى صُعوبة لا سهولة اتخاذ القرار. إنني أدرك بالطبع أن الصحفيين لن يَمَلّوا المُطالبة بالمزيد من حرية تداول المعلومات.. وهو حق أكيد لهم وللقراء والمشاهدين.. لكن المؤكد أن حجم المعلومات المتاح بات يحتاج إلى نظريات جديدة.. وآليات مبتكرة للفرز والاختيار.. ثم للرأى والقرار. السيدات والسادة لقد كانت ثورة المعلومات حاضرة في الربيع العربي.. حيث شهدت مصر موجة رئيسية في الخامس والعشرين من يناير عام 2011 .. خرج الملايين من أبناء شعبنا في ثورة يناير من أجل صناعة دولة الأمل، لكن سرعان ما فوجئ الملايين من أبناء شعبنا أن دولة الأمل لم تتأسس.. وأن التطرف المدعوم خارجيًا قد سرق البهجة، ثم سرق الحلم.. وكاد يسرق المستقبل. وهنا جاءت ثورة استعادة الأمل.. حيث خرج الشعب المصري على نحو غير مسبوق في ثورة 30 يونيو 2013.. تأكيدا لهويته في كونه شعبا متدينا باعتدال ووسطية، لا يستطيع أحد كسر إرادته، أو أن يفرض عليه قوالب جامدة من التخلف والظلام. ولقد شرفّني السيد الرئيس عدلي منصور بأن أتحمل المسئولية فى لحظة فارقة من تاريخ مصر .. لأتشرف اليوم بالحديث إليكم في منتداكم المرموق، وأمام الحضور الكريم. لن أنسى بالطبع – في خضِّم ذلك كله- ومن واقع عملي كمهندس .. أُدرك تمامًا ما الذي تعنيه الأبعاد والمسافات.. وكيف يمكن تأطير الفراغ.. وتحويل الرسومات إلى مُنجزات ومُنشآت. أدرك تماما حتمية مواجهة التحديات ومصارعة الأزمات... كما أنني لا أنسى أنني عملت مهندساً فى بناء الجسور.. وأدرك أن قوة ومتانة الجسور لا تكون فحسب بكميات ما نستخدمه من آلاف الأطنان من الحديد والأسمنت.. ولكنه يكون أيضًا بقوة الإرادة ووضوح الرؤية، وعبقرية الإبداع، وذكاء التصميم ... لقد عملت فى الماضى على بناء الجسور بين الجُزر، وأعمل اليوم على بناء الجسور بين البشر. إنني أُدرك المكانة التاريخية لبلادي.. وأُدرك المكانة الحضارية لشعوبنا العربية من المحيط إلى الخليج.. وأُدرك الرسالة الإسلامية العالمية التي يحملها أكثر من مليار ونصف المليار مسلم من جاكارتا إلى الدار البيضاء. ويُدرك معي ملايين المصريين أن الوسطية كانت عاصمة التاريخ.. وأن الاعتدال والتسامح.. ونبل الأهداف ورقىّ الوسائل كان عماد شخصية مصر.. وكان الأساس في عبقرية المكان والزمان. السيدات والسادة لقد استغرق الأمر في مصر تضحيات عظيمة من أجل عودة الروح، ثم عودة الوعى... واليوم تواجه بلادنا ثورة مضادة من تحالف الإرهاب والفشل .. ولكنني أؤكد لكم أننا سنمضي كما مضيْنا من قبل.. لا تردد ولا انكسار.. لا ارتباك في خطوة واحدة، ولا عودة نهائيًا إلى الوراء. لقد تحملت بلادنا الكثير من أجل أمتنا، وعبر قرون طويلة، وهى الآن صامدة وقادرة على تحمل مسئولياتها من جديد . إننا لن ننسى أبداً تلك الأيادى الصديقة التى امتدت إلينا بالتأييد والمساندة ، وستذكر شعوبنا على الدوام أننا اخترنا أن نكون فى الجانب الصحيح من التاريخ. ولقد كان الإعلام مسئولاً ومُجيدًا في إنارة الطريق وبث الأمل فى لحظات اليأس.. كانت الأخطاء حاضرة بالضرورة... غيْر أنني أتمنى أن يبذل الإعلام أقصى الجهد للانتقال من الثورة إلى الدولة، ومن مرحلة الهدم إلى حتميّة البناء. إنني أتمنى أيضًا أن تكون القيمة الوطنية والرسالة الأخلاقية حاضرة في بناء المستقبل بعد أن تكسرت جوانب عديدة من القيم والسلوك.. وبَذَلَ أعداء الحضارة جُهدًا كبيرًا في محاولات نقل الثورة إلى الفوضى.. ودفع الغضب إلى الحقد. إن المستقبل لن يَبْنيه الاقتصاد وحده، وإنما تَبْنيه الروح السويّة والخُلق القَويم... تبنيه تعاليم الدين، ومبادئ الأخلاق، والحب والتسامح وقبول الغير... السيدات والسادة في زمن العولمة والوسائط الإعلامية والفضاء الالكتروني تزداد الحاجة إلى الإحساس الإنساني والعاطفة الصادقة حتى يمكن الانتصار على عوائق الحركة وقَسْوَة الحياة. وإنني لأتذكر هنا ما قاله فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر في منتدى الإعلام العربي في دبي العام الماضي: " لقد تحولت حياتنا المعاصرة إلى أرقام جامدة.. تبتعد عن دِفء الإنسانية وجمالها.. بقدر ما تقترب من جفاف الرموز وهندسة الأشكال". السيدات والسادة لقد سَعدت كثيرًا بالحديث إليكم وسأتابع ما يدور في مُنتداكم وما يَصُدر عنكم.. مقدرًا جهودكم.. ومتطلعًا إلى التعاون معكم إن شاء الله. ويطيب لي أن أوجه التحية والتقدير إلى صاحب السمو رئيس الدولة الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان وإلى شعب دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة. وإلى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، وإلى الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولى عهد أبوظبى نائب القائد الأعلى للقوا ت المسلحة... وإلى حضراتكم جميعاً، متمنيًا لكم ولشعوبنا العربية والإسلامية... الحرية والكرامة... والأمنَ والمجد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته