لكم تبدو (بورما) بلداً بعيداً منبوذاً ومعزولاً وغامضاً منذ وضعها العسكر تحت أحذيتهم الثقيلة وأغلقوها ليحولوا بينها وبين رياح التغيير الّتي تهب على العالم حاملة بشائر الحريّة والديمقراطية والحكم المدني وأن يتنحى العسكر إلى الثّكنات ليقوموا بواجب الدفاع عن الوطن إن كان هناك خطرُ فعلي، بدلاً من التجوّل في الشوارع لسؤال المواطنين عن هوياتهم وتوجيه الإهانات إليهم واقتيادهم إلى المعتقلات عقاباً على مطالبتهم بحقوق مشروعة أو احتجاجهم على مظالم موصوفة . عسكر (بورما) الّذين تجرأوا على اسمها التاريخي وغيّروه إلى (ميانمار) أظهروا من الفظاظة والميل إلى سفك دماء شعبهم مالم يعد العالم قادراً على تحمله، فلا بدّ للشعوب من مناصرة بعضها بعضاً وإلاّ عاد بها الظّلاميون من اليمين واليسار إلى عهود الطغيان العسكري وأردوها إلى أسفل سافلين ، ولا بأس من ا لتّضحيات التي يفرضها الظلمة الّذين قتلوا أمس الأول من المتظاهرين سلميا 9 وجرحوا العشرات واعتقلوا ثلاثمائة من الرهبان البوذيين ذوي الملابس زعفرانية اللون والذين سميت انتفاضتهم (ثورة الزعفران) لأنهم أي العسكر مهما كان جبروتهم لا يستطيعون أن يقتلوا شعباً بكامله هبّ إلى الحياة واعتناق الحرية: إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر ولا بدّ لليل أن ينجلي ولا بدّ للقيد أن ينكسر لقد مضى عقدان من الزمن منذ تولى ما يطلق عليه مسمى (المجلس العسكري) السلطة وقد تحمّل الناس أذاهم بصبر لا يتوافر إلا في صيدلية (بوذا) وتعاليمه الزاهدة في الحكم، ولكن الكيل فاض ونفد الصبر بعد أن رفعوا أسعار الوقود بنسبة 500% حيث من الواضح أن ذلك يؤدي إلى رفع أسعار كل شيء اَخر فإذا كان البلد منهوبا كما هو حال بورما والتنمية مجرد حبر على ورق واكاذيب لتسلية الأطفال قبل النوم فإن اليأس يحل محل الأمل والبطالة تحل محل العمل والقمع يحل محل الحوار والبلد بأسرها تصبح سجناً كبيراً الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود. لقد كسبت زعيمة المعارضة البورمية الحائزة على جائزة نوبل للسلام أو سان سوكي الخاضعة للإقامة الجبرية منذ سنتين احترام العالم لصمودها العظيم وتحديها للتهديد والوعيد وهي تذكر الإنسانية بكفاحها السلمي وتخندقها مع شعبها المظلوم بالزعيم الهندي العالمي المهاتما غاندي والزعيم الجنوب أفريقي العالمي نلسون مانديلا وسيأتي الوقت الذي سينتصر فيه شعب بورما لينعم بالسلام والحرية والنماء وسيكون لزعيمة المعارضة الأسيرة او سان سوكي ذلك الدور الرائد للزعماء التاريخيين في إشاعة المثل العليا لتهذيب الحكم ولجم الحكّام وإقرار حقوق الإنسان كما هو الحال في جنوب أفريقيا وفي الهند التعددية أكبر ديمقراطية في العالم. نشير إلى أن رهبان بورما البوذيين الذين يبلغ عديدهم زهاء اربعمائة ألف راهب لهم تاريخ طويل من النّشاط السياسي في سبيل الاستقلال عن بريطانيا عام 1947 وفي المظاهرات المناهضة للحكم العسكري عام 1988 والتي انتهت بحمّام دم. إن بورما المعزولة المنبوذة تشرق اليوم بكفاح مواطنيها في ضمير الإنسانية على امتداد العالم، ومن الواجب مؤازرتهم ولو بالقلب من باب أضعف الإيمان