عرفت الآن لماذا كانت شعوب العالم دائما تحسد المصريين على هذه العلاقة الغريبة التي تربط الإنسان المصري بوطنه لا يوجد شعب في العالم احب بلاده كما احب المصريون وطنهم.. والغريب ان هذا الحب لم يرتبط يوما بالمصالح او الغايات والمكاسب كان فقراء مصر أكثر حبا لبلادهم من اغنيائها حتى هؤلاء الذين ظلمتهم الأقدار احيانا على ترابها تفانوا في حبها.. وقد انتقلت لعنة الحب الى الغرباء الذين زاروها او عاشوا عليها.. في قاموس الفراعنة كلمة تسمى لعنة الفراعنة وفي حياة المصريين قصة من العشق لم تتغير.. ان المصري الذي ارتبط بأرضه ونيله وترابه كان من أقل شعوب العالم سعيا للهجرة او استبدال وطن بآخر وحتى في السنوات العجاف رفض المصريون الهجرة.. كان مشهد الملايين من شباب مصر وشيوخها ونسائها يوم 30 يونيه يهز ارجاء الكون والجميع يتابع هذه المشاعر التي اذهلت العالم. طوال الأيام الماضية كانت تزورني احيانا حالة من الإحباط والخوف على مستقبل هذا الوطن.. لقد عشنا تجربة رائعة مع ثورة عظيمة في 25 يناير 2011 جمعتنا اهداف واحدة ووحدتنا احلام امتدت معنا كل سنوات عمرنا وتصورنا اننا سنبدأ عمرا جديدا ولكن للأسف الشديد خذلتنا الأحلام وخاننا رفاق المشوار ووجدنا انفسنا غرباء في وطننا امام وجوه لم نرها من قبل وافكار لم تنبت في هذه الأرض.. رغم كل اسباب الإحباط كان لدي شئ من اليقين ان هذه الغمة لن تطول كثيرا.. وان الرياح المسمومة التي اجتاحت ضفاف نيلنا سوف يبددها صبح قادم.. كنا دائما نراهن على الإنسان المصري صاحب التاريخ والحضارة والثقافة العريقة.. كنا ندرك ان جوهر هذا الإنسان دائما هو التدين الصحيح.. والإيمان الصادق والتسامح النبيل والصدق الجميل.. هبت علينا رياح عاصفة قسمت صفوفنا وشردتنا بين افكار وصراعات ومعارك رغم اننا كنا احوج الى ان نتوحد لنبني بلدا هو بكل المقاييس من اجمل القطع الربانية التي صاغها الخالق على هذه الأرض. تعثرت خطانا امام افكار شاردة لا تتناسب مع مقومات مجتمع اعتاد الرقي وادمن الجمال وكان دائما نموذجا في الترفع والفضيلة.. كنا نؤمن بالخالق سبحانه وتعالى ولا نخشاه خوفا ولكن نخشاه حبا وكنا نسعى اليه ليس طمعا في جناته ولكن حبا في ذاته.. اجتاحتنا افكار غريبة حاولت ان تشكك في إيماننا وهي تعلم ان الإيمان يسري في دماءنا منذ آلاف السنين.. كانت ترى فينا الضلال رغم اننا اصحاب اول دعوات التوحيد.. حاولت ان تبعث الفتن بيننا ونجحت الى حين ولكن الإنسان المصري الخلوق كان يقوم منتفضا رافضا ذلك كله.. للأسف الشديد ان السحابات السوداء التي اجتاحت ضفاف نهرنا الخالد بدأت تتسع مداراتها وتزداد ظلمتها حتى وجدنا انفسنا محاصرين بوجوه غريبة علينا.. وجدنا من يشكك في ايماننا وهو يعلم ان الإيمان ليس تجارة ولكنه يقين يسكن النفس ويسري في الدماء وجدنا من يدعو علينا رغم انه يعلم اننا كنا دائما مسالمين نطلب رحمة الخالق وكان دائما يقف معنا في كل الشدائد.. وجدنا من يطارد الناس في الشوارع ليزرع الخوف في نفوسهم رغم اننا اعتدنا الأمن في حياتنا وكان الفقراء فينا ينامون على شواطئ النيل تحرسهم عناية الله وتحميهم قلوب صافية.. حين اجتاح الخوف قلوب المصريين تغيرت النفوس وتبدلت المشاعر وبدأت حشود الكراهية تقتحم القلوب التي اعتادت البراءة.. وشعر المصريون انهم امام احتلال خانق يحاول ان يطمس هويتهم التي اعتادوا عليها.. إيمان بلا صخب.. ثقافة بلا جنوح.. وفكر مترفع.. وشخصية اهم ما فيها العمق والتسامح والمصداقية. ذات مساء كان المصريون يجلسون امام شاشات التليفزيون يتابعون البرامج والأخبار ورغم انهم كثيرا ما شعروا بالملل من احداث متكررة ووجوه قبيحة تطاردهم كل مساء وقضايا اهملت متاعبهم واحتياجاتهم واهتمت بالمظاهر واغلقت امامهم ابواب الفكر والحوار رغم هذا كله كانوا قد اعتادوا على هذه الظواهر السطحية التي اكدت ان الشخصية المصرية فقدت الكثير من العمق والمصداقية. من بين ملايين الأسر من ابناء الشعب المتسامح الطيب توقف الملايين عند صيحات غريبة تتهم الناس بالكفر وتطالب بقطع الرؤوس وسفك الدماء واستحلت اجمل الأشياء في حياة الشعب العظيم الفكر والثقافة والفنون والدين الوسطي الذي يقوم على الرحمة ولا يقوم على العقاب سطت الوجوه الغريبة على المشهد المصري الرفيع وتلفت المصريون حولهم يطلبون النجدة من هذا الاحتلال الخانق وبدأت دعواتهم للسماء تعلو.. يا الله انت تعلم اننا نحبك لذاتك. لم تكن مخاوف المصريين البسطاء من دعاة التكفير وسفك الدماء بعيدة عن مسامع جيش مصر العظيم.. وصلت الصرخات المكتومة واهتزت لها ارجاء مصر كلها وتساءل قادة الجيش هل هذه مصر التي عرفناها واحببناها وكيف لنا ان نسمح بترويع هذا الشعب العظيم.. كانت البداية بيان الجيش الذي اطلقه كالبركان الصاخب قائد الجيش المصري الفريق اول عبدالفتاح السيسي وشباب مصر ينطلق في الشوارع والميادين يطالب بإسقاط الإحتلال الذي سيطر على إرادة هذا الشعب واستباح كل شئ فيه.. في يوم 30 يونيه خرجت في شوارع مصر أكبر مظاهرة عرفها تاريخ البشرية.. هكذا قالوا في مراكز المعلومات في الغرب لم تكن المظاهرة دعوة لعودة الماضي الفاسد كما ادعى البعض ولو ان هذا الماضي كان قادرا على حشد هذه الملايين ما رحل.. قالوا انها فلول الحزب الوطني المنحل ولو ان هذا الحزب كان قادرا على جمع هذا العدد المخيف ما انتهى في اسبوعين.. ان هذا الحشد الذي خرج الى الشوارع هو تراث مصر الحضاري بكل مكوناته انهم شباب مصر وميلادها الجديد وثورتها التي لم تهدأ بعد.. دين متسامح.. إنسان متحضر.. فكر واع.. ثقافة رفيعة وقبل هذا كله إيمان بهذا الوطن لم تسقط ثوابته يوما امام إحتلال او وصاية. اندفع الملايين من ابناء مصر في ثورة جديدة وتقدم الشباب يرفضون وصاية الفكر وسطوة المسلمات وضمور العقل.. كان مشهد الفريق اول السيسي وقادة القوات المسلحة ورموز مصر فضيلة الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر د. احمد الطيب.. وقداسة البابا تاوضروس ود. البرادعي ونخبة من رجال السياسة والفكر والدين.. كان هذا الحشد يمثل مصر الحقيقية بكل رموزها.. كان بيان السيسي جامعا شاملا يضع تصورا لمسيرة الوطن في الفترة القادمة.. أكد الرجل ان الجيش لا يسعى للسلطة ولا يريد ان يعود اليها وهو صادق فيما قال وان الهدف ان نخرج بمصر من هذا النفق المظلم وان هناك برنامجا واضحا للخروج من هذه الأزمة.. رئيس مؤقت هو المستشار عدلي منصور أكبر رأس في المؤسسة القضائية وهي المحكمة الدستورية العليا.. حكومة كفاءات لا وزارة مجاملات.. ولجنة لمراجعة التعديلات الدستورية تمهيدا لإصدار دستور جديد.. ومشروع قانون للإنتخابات البرلمانية.. وانتخاب رئيس للجمهورية.. وميثاق شرف للإعلام المصري.. وخطة لتمكين الشباب اصحاب المستقبل في مؤسسات الدولة وقبل هذا كله توقفت عند نقطة هي الأهم في ذلك كله وهي المصالحة الوطنية.. كانت هذه القضية هي السهم المسموم الذي فرق اركان الدولة المصرية خلال عام واحد.. ان النسيج الإنساني للمجتمع المصري هو اهم مكونات هذا الوطن.. كانت التعددية اهم مميزات الشخصية المصرية.. لقد تعددت في مصر الثقافات وكانت مصر دائما قادرة على ان تتفاعل مع كل فكر لتحافظ علي هويتها الثقافية.. لم تستطع ثقافة من الثقافات الوافدة ان تشوه ثوابت العقل المصري.. ما اكثر الغزاة الذين توافدوا على ضفاف النيل ولكن النيل استطاع ان يوحد كل هذه الثقافات ليقدم منها فكرا واعيا متحضرا عميقا يحمل طين هذي الأرض وجذورها. في عام واحد شهدت مصر مئات التظاهرات وآلاف الإنقسامات حتى وصل بنا الحال الى مانراه اليوم من تكفير ابناء الأسرة الواحدة هذا مؤمن وهذا كافر وكلاهما جاء من رحم واحد.. وللأسف الشديد وجدنا بيننا من يثير الفتن بين ابناء الدين الواحد.. كانت ازمنة الاستبداد تشعل نيران الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين ووجدنا من ابناء ديننا من يشعل الفتن بين ابناء الأب الواحد هذا مسلم وهذا كافر.. أكاد أؤكد ان مشهد التيارات الدينية التي تدعي الإسلام في إستاد القاهرة وقاعة المؤتمرات في مدينة نصر ومظاهرات المنيا واسيوط ودعوات التكفير التي انطلقت منها كانت الأسباب الرئيسية لما حدث في مصر طوال الأيام الماضية. كان الجيش المصري رافضا تماما لهذا المشهد السيئ الذي روع المصريين وشكك في إيمانهم. اسودت مياه النيل امام الدعاوى الكاذبة والنفوس المريضة وسالت دماء غزيرة على ضفاف نيلنا الذي لم نتعلم منه سوى الحب والعطاء والرحمة ان وحدة مصر الشعب هي الآن اهم قضايانا التي ينبغي ان نجمع بها شمل الوطن مرة أخرى.. انها الداء الذي ينبغي ان نقضي عليه بعد ان افسد النفوس والضمائر.. واليوم عادت مصر تبتسم لكل ابنائها وهم يحيطون بها يقدمون قرابين الحب والإيمان والتسامح. الف باقة ورد تحملها مصر الى ابنائها الأبرار رجال قواتنا المسلحة ورجال الشرطة الذين عادت قلوبهم الصافية تحتضن شوارع مصر مرة اخرى.. اما شباب مصر الرائع الذي تجمع بالملايين ليكتب اسطورة جديدة فهم املها الباقي ومستقبلها المضئ.. اقول لهم عودوا الى صدر الأم لأنها حبكم الدائم وعشقكم المقيم اختلفوا ما شئتم في السياسة وتفرقوا في دروب الفكر وعيشوا الإيمان على طريقتكم تسامحا وترفعا ولكن لا تختلفوا ابدا على ولائكم لها سافروا ما شئتم في بلاد الله واشربوا من بحور المعرفة ما اردتم ولكن تذكروا دائما انها الوطن والقبر والمصير.. آلاف الأفكار تغزو عقولنا.. وآلاف الأحلام تزور جوانحنا.. ولكن ليس لنا غير وطن واحد هو كنانة الله في ارضه مصر.. الباقية ابدا منارة تضئ.. وحضارة نزهو بها.. وشعب عاشق للحياة هذه هي مصر التي اذهلت العالم بهذه الملايين التي خرجت في حشود لم يشهدها من قبل لتجسد معنى الحب والوطنية.. وهذا هو تراث مصر الحقيقي... ويبقى الشعر عودوا إلى مصر ماء النيل يكفينا منذ ارتحلتم وحزن النهر يدمينا أين النخيل التي كانت تظللنا ويرتمي غصنها شوقا ويسقينا؟ أين الطيور التي كانت تعانقنا وينتشي صوتها عشقا ويشجينا؟ أين الربوع التي ضمت مواجعنا وأرقت عينها سهدا لتحمينا ؟ أين المياه التي كانت تسامرنا كالخمر تسري فتشجينا أغانينا ؟ أين المواويل ؟..كم كانت تشاطرنا حزن الليالي وفي دفء تواسينا أين الزمان الذي عشناه أغنية فعانق الدهر في ود أمانينا هل هانت الأرض أم هانت عزائمنا أم أصبح الحلم أكفانا تغطينا جئنا لليلي.. وقلنا إن في يدها سر الحياة فدست سمها فينا في حضن ليلي رأينا الموت يسكننا ما أتعس العمر.. كيف الموت يحيينا كل الجراح التي أدمت جوانحنا ومزقت شملنا كانت بأيدينا عودوا إلي مصر فالطوفان يتبعكم وصرخة الغدر نار في مآقينا منذ اتجهنا إلي الدولار نعبده ضاقت بنا الأرض واسودت ليالينا لن ينبت النفط أشجارا تظللنا ولن تصير حقول القار.. ياسمينا عودوا إلي مصر فالدولار ضيعنا إن شاء يضحكنا.. إن شاء يبكينا في رحلة العمر بعض النار يحرقنا وبعضها في ظلام العمر يهدينا يوما بنيتم من الأمجاد معجزة فكيف صار الزمان الخصب..عنينا؟ في موكب المجد ماضينا يطاردنا مهما نجافيه يأبي أن يجافينا ركب الليالي مضي منا بلا عدد لم يبق منه سوي وهم يمنينا عار علينا إذا كانت سواعدنا قد مسها اليأس فلنقطع أيادينا يا عاشق الأرض كيف النيل تهجره ؟ لا شيء والله غير النيل يغنينا.. أعطاك عمرا جميلا عشت تذكره حتي أتي النفط بالدولار يغرينا عودوا إلي مصر..غوصوا في شواطئها فالنيل أولي بنا نعطيه.. يعطينا فكسرة الخبز بالإخلاص تشبعنا وقطرة الماء بالإيمان تروينا عودوا إلي النيل عودوا كي نطهره إن نقتسم خبزه بالعدل.. يكفينا عودوا إلي مصر صدر الأم يعرفنا مهما هجرناه.. في شوق يلاقينا "من قصيدة عودوا إلى مصر سنة 1997" نقلا عن جريدة الأهرام