قلناها من قبل ونقولها ربما للمرة المائة: الناس في حاجة لمن يطعمها لا من يعظها، ومن يعلم أبناءها، لا من يتفلسف وينظر ويقعر في الفضائيات عن الليبرالية والديمقراطية والثيوقراطية. ولو نزلت جبهة الإنقاذ لجموع المصريين الذين لا تتواصل معهم لأنهم ببساطة لا يشاهدون الفضائيات، لكان خيرا للجبهة وأبقى.. هؤلاء هم سكان القرى والكفور والنجوع والعشوائيات الحقيقية في أقاصي الصعيد، الذين قرصهم الجوع وطحنتهم البطالة ووقف الحال، وعندهم تأمين الثلاث وجبات يوميا أو حتى وجبتين أو مجرد العشا، أهم من تحقيق التوافق المزعوم بين القوى السياسية المتناحرة، وأجدى من الحوار الوطني، فالتوافق الذي يتطلعون اليه هو تدبير أساسيات الحياة لاي بني ادم "4 حيطان وهدمة ولقمة عيش"، صحيح ان "مفيش حد بينام من غير عشا" في مصر، لكن الوصول الى هذا العشا اصبح الان يتحقق للكثيرين بإراقة ماء الوجه وسؤال الناس إلحافا. لقد جاء على المصري حين من الدهر أصبح فيه ينتظر عند محلات العصير ليحصل على قشر البرتقال، ليزيده عصرا فيحصل على الزيت الناتج عن القشر ليضعه على الفول بديلا للزيت غالي الثمن. واذا كنا نستدعي النموذج التركي في الاقتصاد، فعلى الرئيس مرسي ان يستدعيه في تفقد الرعية وخاصة فقراءهم، فقد عرف عن رئيس الوزراء التركي أردوغان، انه كان يقوم، وبالذات خلال شهر رمضان، بزيارات لأكواخ الفقراء في الريف، فيطرق باب احدهم قبيل أذان المغرب، ويسأل اصحاب الكوخ اذا كان يمكنهم ان يقبلوه ضيفا على الافطار ليتناول معهم أكلهم البسيط، ويجري ذلك دون اصطحاب اي كاميرات او صحفيين، كما تجري الزيارة المفاجئة "بحق وحقيقي" دون حراسة وفي السر لا يعلمها أحد، ويتم النشر عنها في اليوم التالي في خبر بسيط بالصحف، حتى يحفز اردوغان اثرياء تركيا على ان يقتدوا به ويتطوعوا بالتبرع لمشروعات الخير التي تعود بالفائدة على الفقراء. ولا أريد ان يتم ذلك على طريقة "الخص" الذي تناول فيه الرئيس المخلوع الشاي مع فلاح تبين بعدها انه صول بالشرطة. وكان "الخص" واللقاء وكل شيء من ترتيبات مباحث أمن الدولة. اذا نزل الرئيس مرسي اليوم الى الغلابة، وقد كان قبل 30 يونيو الماضي قريبا منهم، فسيعرف المعني الحقيقي للتوافق الذي تتطلع اليه الكتلة الكبرى للشعب المصري، هو شيء آخر غير سفسطة الصفوة والنخبة والنكبة حول الرقابة الدولية على الانتخابات والعتبة الانتخابية والقايمة والنايمة والفردي والجماعي، فهذه الكتلة لا يهمها إلا ضمان لقمة العيش والعودة إلى العمل بعد طول بطالة، يريدون ضمانا ألا يهان اولادهم ويتم طردهم من فصول الدراسة لانهم لم يسددوا المصاريف، يريدون ضمانات بأن يتم تشغيل ابنائهم الذين انهوا دراساتهم ويجلسون "كالولايا" دون عمل، يريدون ضمانات بأن رب الاسرة حين يسقط فريسة لفيروس الالتهاب الكبدي الوبائي او الفشل الكلوي او السرطان وما أكثره في مصر، يمكن ان يجد سريرا للعلاج ولا يلقى به خارج المستشفى. كتبت قبل ذلك ان اليوم الذي ينتظر فيه طبيب الطوارىء والمسعفون المريض على باب المستشفى - وليس المحاسب وأمين الخزينة - حين يأتي هذا اليوم، عندها يمكن ان نقول ان ثورة يناير قد حققت اهدافها، فقد اندلعت الثورة اساسا لإعلاء قيمة الانسان الذي كان ينظر اليه نظام المخلوع على انه ليس سوى زائدة دودية يجب استئصالها، بل كثيرا ما تمنى ان يأتي زلزال او كارثة طبيعية لتزيح جزءا من هذا الشعب من على وجه الارض، فنظام مبارك كان يرى انه شعب لحوح، كثير الطلبات - عيش، حرية، كرامة انسانية، عدالة اجتماعية - لانه يريد فقط ان يعيش مرفوع الرأس، لهذه الاسباب قامت الثورة، إلا ان قيمة الانسان المصري لا تزال في الحضيض. انزل يا دكتور مرسي للشعب الغلبان الفقير، فهؤلاء الاولى والأجدى ان تجري معهم الحوار الوطني لتدرك آمالهم وآلامهم، وليست الصفوة والنخبة المرفهه التي يأتي بعض اعضائها بسيارات جاجوار وشبح، وينفثون في وجوه الحاضرين دخان سيجار كوبي، فاخر يكفي ثمن الواحد منه ان يطعم أسرة مصرية لأسبوع كامل. ثم يزايدون بعدها على آلام هذا الشعب دون ان يقدموا له شيئا، وإذا كانت هذه النخبة تنتقد الإخوان لأنهم لا يساعدون الناس لوجه الله بل لكسب اصواتهم، فلماذا لا تفعلون انتم مثلهم، وتتركون النوايا لله، وبالتالي يتحقق التنافس في الخير لصالح هذا الشعب، وبدلا من شراء الاصوات، يمكنكم اقامة المشروعات الصغيرة لتشغيل العاطلين، عندها سيتحول الناخبون عن الاخوان اليكم؟ الا انكم لا تفعلون اكثر من المزايدة امام الميكروفونات، ولو رأى الشعب سياراتكم الفاخرة وثيابكم الحريرية التي تحضرون بها الى الفضائيات سيعطيكم ظهره. اتذكر دوما شطرة بيت الشاعر بابلو نيرودا: "اطفال بلادي لا يجدون اللبن، وأقراش المحيط تشرب القهوة" ونقول لتلك النخبة: ابناء بلادي لا يجدون اللقمة، وأقراش النخبة تشرب السيجار. كنيسة وطنية مخلصة أتمنى أن أشد على يد كهنة ورهبان وشمامسة وخدام مطرانية الأقباط الأرثوذكس بالفيوم، ففي الوقت الذي تتصيد فيه فضائيات اشعال الحرائق اي حادثة بسيطة لتشعل بها فتنة طائفية، اذا بمطرانية الفيوم تنشر اعلانا مدفوعا في احدى الجرائد اليومية تعبر فيه عن استيائها مما اذاعته احدى الفضائيات "القبطية" بخصوص كنيسة مار جرجس بسرسنا-طامية- الفيوم، وما احتواه العرض- وانا انقل هنا عن الاعلان المنشور- من معلومات تبتعد عن الدقة والحقيقة لان ما حدث لا يتعدى خلافاً بين الكنيسة والجار الملاصق لها نتج عنه حرق بجزء بسيط مجاور للحجرة وسرعان ما تم احتواء الاحداث في جو من المحبة بين المسلمين والمسيحيين بالقرية. ويمضي الاعلان المدفوع من الكنيسة التي لم تستنكف ان توجه فيه صيحات الاستياء الى قناة قبطية، ليؤكد: "كما ان الصلوات والخدمات مستمرة بالكنيسة دون توقف وقد عم الهدوء والسلام بين الجميع ولا خسائر في الارواح ولا مصابين ولا تلفيات تذكر بالكنيسة" وأهابت المطرانية بهذه القناة والمذيع "تحري الدقة عند عرض مثل هذه الاحداث حرصا على سلامة بلدنا الحبيب مصر". وهكذا في الوقت الذي يخرج فيه الوسواس الخناس بفضائيات الفتنة لإشعال نيران الحرائق الطائفية، تخرج علينا كنيسة مصرية لتقدم درسا في الإخلاص للوطن وتكذب هذه الفضائية التي حاولت استغلال حادث بسيط لإفساد العيش المشترك بين المسلمين والأقباط في احرج اللحظات التي يمر بها الوطن. اقتدوا بكنيسة الفيوم يرحمكم الله. نقلا عن جريدة أخبار اليوم