فقراء مصر صامدون امام جحافل الحاجة والظروف والحياة القاسية.. لم ينضموا إلى مواكب الساخطين من الفئات الأخرى من أصحاب المطالب الفئوية من الأطباء والمدرسين واساتذة الجامعات والبنوك وشركات البترول واصحاب الأحزاب السياسية ورموز النخبة الضائعة.. مازال فقراء مصر وهم الاغلبية واقفين في شموخ يصارعون مطالب الحياة رغم انهم الأحق بالرعاية والحماية والأمن.. هذه الظاهرة الإنسانية الرفيعة تجعل الإنسان يشعر بالتفاؤل ان جذور الشجرة لم تفسد ولم يصبها العطب وان ما حدث في فروعها من العفن لم يفسد كل شئ فيها، وكان السؤال الذي حاولت ان أبحث له عن إجابة لماذا صمد فقراء مصر هل هو التعفف ام هو الإيمان أم هو الترفع عن الحرام رغم ان المجتمع بكل رؤوسه غرق في هذا الحرام.. ما بين العشوائيات الفقيرة والمنتجعات الغنية مسافة قصيرة جدا انها مجرد دقائق تفصل الاثنين من لا يملكون عشاء يومهم ومن ملكوا الأرض وما عليها.. بين طفل ينام على الرصيف مع الملايين من اطفال الشوارع وطفل ينام في قصر منيف.. المعادلة صعبة وقاسية ومربكة في احيان كثيرة. ان الأطباء ساخطون وهم على حق فلا يعقل ان يكون مرتب الطبيب بضع مئات من الجنيهات لا تشتري ثوبا ولا تغطي تكاليف المواصلات ومن حقه ان يغضب وان يثور، وان يخرج متظاهرا ضد مجتمع فاسد لا يعطيه حقه في حياة كريمة.. ولكن على الجانب الآخر هناك شاب فقير حصل على شهادته العليا وكان الأول على دفعته وفي الوقت الذي اصبح فيه زميله الفاشل ابن الوزير أو المدير أو صاحب المنصب الخطير في ارقى المناصب فهو يعمل في أحد المطاعم وربما وجد نفسه وجها لوجه مع زميله الفاشل ويقدم له الطعام ويلعن الشهادة التي يحملها والتفوق الذي وصل إليه.. في لقاء رئيس الوزراء د. هشام قنديل مع رؤساء التحرير أصابتني عاصفة من الأرقام بحالة من الإحباط لم أتجاوزها بعد.. إن متوسط معدلات الفقر وصل إلى 25% في حده الأدنى وبلغ 80% في بعض مناطق الصعيد وان نسبة البطالة وصلت إلى 13% واعلى نسبة فيها بين خريجي الجامعات.. وان متوسط دخل الفرد في مصر أقل من 12 جنيها في اليوم.. وإذا استمر الحال على ما هو عليه فإن العجز المالي في الميزانية وهو 170 مليار جنيه سوف يصل إلى 345 مليار جنيه بعد خمس سنوات.. وان الدين العام بلغ تريليونا و200 مليار جنيه وسوف يصل إلى 2 تريليونين و800 مليار بعد أربع سنوات إذا بقي المصريون على حالهم حيث لاعمل ولا إنتاج. ومن بين الأرقام المحبطة ايضا ان الدعم في الميزانية يحصل على 33% والأجور والمرتبات 26% وفوائد الديون 22% وان الباقي وهو اقل من 20% موزع على كل الخدمات بما فيها التعليم والبنية الأساسية والصحة وما يسمى التنمية البشرية وان الإحتياطي من العملات الأجنبية قد وصل إلى 15 مليارا و500 مليون دولار وهذا الرقم يغطي واردات مصر ثلاثة أشهر فقط. بعد ان سمعت هذا الكلام وهذه الأرقام قلت لا اعتقد ان الحل يمكن ان يكون في انبوبة بوتاجاز أو صفيحة بنزين والحل يحتاج إلى إجراءات حاسمة ولا ينبغي ان يتحمل الفقراء فاتورة العجز في الميزانية أو خطط جديدة سمعناها مليون مرة تحت شعار الإصلاح الاقتصادي. ان ميزانية التعليم في مصر 64 مليار جنيه منها 50 مليار جنيه هي بند المرتبات والباقي وهو 14 مليار جنيه هي قيمة الإنفاق على العملية التعليمية في مصر لشعب تعداده 90 مليون مواطن وهذا يعني ان نصيب كل طالب لا يتجاوز خمسة جنيهات طوال العام الدراسي، ولهذا يتخرج الملايين وهم لا يعرفون شيئا.. في شركات البترول تصل المرتبات إلى آلاف الجنيهات لعشرات الالاف من الموظفين والعاملين والخبراء ورغم هذا خرج هؤلاء في مظاهرات ومطالب فئوية رغم ان شركات البترول مدينة بأكثر من 60 مليار جنيه.. وما حدث في قطاع البترول يحدث ايضا في شركات الكهرباء.. والأخطر من ذلك هي المطالب الفئوية لأساتذة الجامعات واعضاء الأجهزة الرقابية والقضاة والمحامين والصحفيين والإعلاميين، واتسعت دائرة المطالب الفئوية وتجاوزت المطالب المادية لتصل إلى جمعية إعداد الدستور وما يجري فيها.. لا ننكر ان من بين هذه الفئات من تعرضوا لظلم فادح في العهد البائد امام عمليات التمييز وإقصاء البعض والعدوان على حقوق الناس ولكن المفاجأة ان فقراء مصر لم يخرجوا حتى الآن مطالبين بحقهم في توفير أبسط مطالب الحياة.. كان الخبراء قبل ثورة يناير يقيمون كل حساباتهم على ان ثورة الجياع قادمة وان مصر على ابواب انتفاضة مدمرة امام إرتفاع نسبة الفقر والأمية والجريمة ومساحة العشوائيات كان هناك إجماع على ان الثورة القادمة هي ثورة الفقراء.. ولكن الغريب حقا ان تكون ثورة التكنولوجيا أحدث ما وصل إليه العالم هي الشعار الذي انطلق به شباب مصر ليسقط النظام البائد ويؤكد للعالم اننا امام شعب متحضر مستنير. لم يخرج فقراء مصر وشاركوا في ثورة الشباب، واختلطت دماؤهم الذكية مع دماء شباب مصر في ميدان التحرير وميدان الأربعين وميدان القائد إبراهيم، وكانت هذه الدماء أول سطر في كتاب الحرية. في هذا المشهد التاريخي كنت تشاهد مواكب النخبة المثقفة الواعية وهي تطوف على الفضائيات تشعل النيران وتطالب بالتظاهر والرفض وتجمع الأموال من كل سبوبة متاحة.. وامتدت ايادي الهاربين بأموال الشعب تشتري هؤلاء الفقراء بخمسين جنيها لكي يتظاهر أو يلقي حجرا هنا أو حجرا هناك وربما أصابته رصاصة طائشة أفقدته حياته.. كانت النخبة في منتهى الأنانية وهي تستغل ظروف الحاجة وتدفع بهؤلاء الصغار الفقراء لإحراق المجمع العلمي أو إشعال النيران في محمد محمود والسفارة السعودية ومجلس الوزراء.. اموال كثيرة تدفقت من الخارج مصادرها معلومة ومعروفة وسوف تعلنها الدولة قريبا بعضها إتجه إلى وسائل الإعلام من الصحف والفضائيات والبعض الآخر اتجه إلى شراء الشباب والأطفال الصغار لاستخدامهم في إشعال الفتن في الشارع. على جانب آخر كان رموز العمل السياسي يشيدون الأحزاب ويقيمون الولائم والمؤتمرات وينفقون عليها الملايين من الجنيهات دون أي عائد معنوي أو ادبي أو مادي يمكن ان يمر على الطبقات الفقيرة ولو ان هذه الحشود من رجال الأعمال والمنتفعين والساسة قررت ان تمد يدها بأي عون لهذه الطبقات الفقيرة لحل مشاكلها ومواجهة ظروفها الصعبة لكان ذلك افضل. وكان الصدام الدامي يوم الجمعة الماضي بين شباب الإخوان المسلمين والقوى السياسية الأخرى أكبر دليل على فشل الجميع إخوانا وسلفيين وليبراليين، كان تأكيدا ان النخبة السياسية لم تنضج بعد ومازالت تعيش مراهقة سياسية مؤسفة. في تقديري ان موقف حزب الفقراء في مصر حتى الآن بعد الثورة هو انبل وارفع المواقف في هذا الشعب.. كل فئات الشعب المصري على المستوى الإنساني خرجوا من هذا الامتحان خاسرين. أخرجت النخبة المصرية أسوأ ما فيها في لغة الحوار والسلوك والإنتهازية.. خرجت طوائف الشعب المختلفة بمطالبها المتعددة دون انتظار لتحسن الأوضاع الأمنية وعودة الإستقرار للوطن خرجت الفلول من العهد البائد تحاول تشويه الثورة والإنتقام من شبابها والتشكيك في كل شئ فيها. تدفقت اموال الفساد التي نهبها لصوص العهد البائد تحاول إجهاض الثورة واستخدمت في ذلك الإعلام المشبوه بكل اطيافه.. كانت الأيادي الخارجية الهاربة تحاول استخدام كل الوسائل لإشعال الفتن في الشارع المصري واستخدمت في ذلك اموال الشعب التي نهبتها في ظل النظام السابق ورموزه الفاسدة. كانت جميع القوى السياسية تتصارع مع بعضها لإقتسام الغنيمة في السلطة ومصادرة المستقبل وتخلت عن دورها الأساسي في حماية المجتمع بكل تياراته وطوائفه. كانت التيارات الدينية تحاول تأكيد مكاسبها ووصولها إلى السلطة وكانت التيارات الليبرالية والعلمانية تسعى لهدم المعبد كله لأنها لم تصل إلى شئ حتى الآن.. انطلقت التيارات السياسية وراء جني الثمار والإستيلاء على السلطة والبحث عن المكاسب وكل فئة أو فصيل يحاول السطو على الوليمة رغم انها مسمومة. كانت كل هذه المعارك وتصفية الحسابات بين القوى السياسية التي طفت على السطح بعد قيام الثورة هي أسوأ ما ظهر في سلوكيات واخلاقيات الشارع المصري فقد طفحت على وجه الحياة كل الأمراض التي خلفها النظام السابق في اختلال منظومة القيم وحالة التجريف التي اصابت العقل المصري إبتداء بفساد النخبة وانتهاء بكل امراض الإنتهازية التي لحقت بسلوكيات الشارع المصري طوال السنوات العجاف. والآن يقف حزب الفقراء اكبر احزاب مصر واكثرها رضا وقناعة وترفعا من بعيد يراقب ما يحدث في مصر انه لا يجد ماء نقيا.. ولا يجد رغيفا نظيفا ولا يجد مسكنا يليق بالبشر ويجلس الآباء بلا عمل والأبناء بلا أمل وينحشر الملايين منهم في غرف صغيرة وبرغم كل ذلك فإنهم راضون شاكرون ينتظرون وطنا يوفر لهم الحياة الكريمة ان فقراء مصر كانوا مصدر الحماية لثورتها والآن تقف الحكومة حائرة وهي تحاول تدبير مصادر لتمويل الميزانية وانا هنا أحذر من الضغط على فقراء هذا الشعب لأنهم لن يتحملوا المزيد من الصعوبات وعلى الحكومة ان تبحث عن مصادر أخرى لتمويل عجز الميزانية غير انبوبة البوتاجاز ورغيف الخبز وسكان العشوائيات. وسط حالة من الفوضى والإرتباك في المواقف والسلوك يظهر فقراء مصر في هذا المشهد الغريب وهم الأكثر تماسكا والأكثر قناعة وحرصا على هذا الوطن برغم انهم الأحق والأجدر بالرعاية.. إنها الكبرياء. .. ويبقى الشعر ماذا تبقى من بلاد الأنبياء ؟ من أي تاريخ سنبدأ بعد أن ضاقت بنا الأيام وانطفأ الرجاء يا ليلة الإسراء عودي بالضياء يتسلل الضوء العنيد من البقيع إلي روابي القدس تنطلق المآذن بالنداء ويطل وجه محمد يسري به الرحمن نورا في السماء.. الله أكبر من زمان العجز.. من وهن القلوب.. وسكرة الضعفاء الله أكبر من سيوف خانها غدر الرفاق.. وخسة الأبناء جلباب مريم لم يزل فوق الخليل يضيء في الظلماء في المهد يسري صوت عيسي في ربوع القدس نهرا من نقاء يا ليلة الإسراء عودي بالضياء هزي بجذع النخلة العذراء يساقط الأمل الوليد علي ربوع القدس تنتفض المآذن يبعث الشهداء تتدفق الأنهار.. تشتعل الحرائق تستغيث الأرض تهدر ثورة الشرفاء ياليلة الإسراء عودي بالضياء هزي بجذع النخلة العذراء رغم اختناق الضوء في عيني ورغم الموت.. والأشلاء مازلت أحلم أن أري قبل الرحيل رماد طاغية تناثر في الفضاء مازلت أحلم أن أري فوق المشانق وجه جلاد قبيح الوجه تصفعه السماء مازلت أحلم أن أري الأطفال يقتسمون قرص الشمس يختبئون كالأزهار في دفء الشتاء مازلت أحلم.. أن أري وطنا يعانق صرختي ويثور في شمم ويرفض في إباء مازلت أحلم أن أري في القدس يوما صوت قداس يعانق ليلة الإسراء ويطل وجه الله بين ربوعنا وتعود أرض الأنبياء "من قصيدة ماذا تبقى من بلاد الأنبياء سنة 2000" نقلا عن جريدة الأهرام