الشعب المصري يتهيأ لممارسة أول استحقاق انتخابي حر بعد الثورة المصرية العظيمة. وبعض الأحزاب السياسية بدأت حملاتها الانتخابية للدعاية لمرشحيها وشرح برامجها وكسب ثقة هيئة الناخبين إلى صفها. والأجهزة التنفيذية تحاول القيام بواجباتها من أجل ضمان أفضل مناخ للانتخابات القادمة. وفي ظل تلك الأجواء الديمقراطية فاجأتنا المجموعة الوزارية برئاسة الاستاذ الدكتور علي السلمي بطرح وثيقة المبادئ العجيبة التي أربكت المشهد كله ودعت القوى السياسية لمناقشتها مما أدى إلى إعادة انتاج المناخ الاستقطابي الذي كان موجوداً خلال الشهور السابقة قبل الاعلان عن الانتخابات. الديمقراطية تقضي بأبسط قواعدها أن يحترم الجميع إرادة الشعب، وأن ينزلوا على رأيه وأن يخضعوا لمشيئته لأنه صاحب السيادة وحده. والحرية تقول إن جهة ما، مهما كانت، لا تستطيع أن تلزم ممثلي الشعب بأي قرار او حكم أو وثائق، لأن الشعب هو الذي يختار الهيئة التشريعية التي تسن القوانين، وهو الذي يختار عبر ممثليه المنتخبين الهيئة التأسيسية التي تضع الدستور، وهو الذي يقبل أو يرفض الدستور في استفتاء حر نزيه، وهو الذي يدفع الضرائب لينفق على الأجهزة التنفيذية المكلفة بواجبات محدّدة في الدستور، وهو الذي يقدم ضريبة الدم من أبنائه رجال القوات المسلحة الذين يدافعون عن الوطن ويحمون الحدود في خدمة علم مصر. هناك نخب فكرية وسياسية وثقافية ترى نفسها بعيدة عن الشعب، ومغتربة عن ثقافته، ولا تعيش هموم المصريين، فهي ترى نفسها فوق الشعب الذي تتهمه بالبساطة أو الجهل. وهناك أحزاب سياسية، قديمة وحديثة، ترى حظوظها في الانتخابات المقبلة ضعيفة أو ضئيلة، فلا تجد لها تمثيلاً يناسب ما تراه لنفسها من مكانة أو قوة أو ثراء أو نفوذ. وهناك منافقون يريدون أن يتملقوا السلطة الانتقالية الحالية ويريدون أن يتزلفوا لها بكل الطرق والوسائل. وهناك إعلاميون يبحثون عن القضايا المثيرة للجدل والخلاف بعيداً عن الموضوعية أو قضايا الساعة الحقيقية. وهناك من وراء ذلك كله من يريد إعادة انتاج النظام القديم البائد بنفس سياساته وممارساته وإن كان بوجوه جديدة وأسماء حديثة. لقد قدّم أ.د. السلمي والمجموعة الوزارية لكل هؤلاء فرصة للعودة إلى جدل عقيم حول مبادئ واضحة مستقرة لا يجوز أن نختلف عليها ونحن في أولى مراحل الديمقراطية الدستورية، وهي إعلاء إرادة الشعب وحده واحترام تلك الارادة الشعبية والسعي إلى كسب ثقة الشعب وعدم الالتفاف حولها. وللخروج من هذا المأزق الذي وضعتنا فيه الوثيقة والمعايير ولوقف هذا الجدل العقيم، ولمنع التداعيات الشعبية الرافضة لمبدأ الالزام غير الديمقراطي وغير الدستوري وغير الموضوعي يمكننا أن نطرح هذه الأفكار والرؤى. على المجلس العسكري أن يعلن براءته من إقحام القوات المسلحة في ذلك الجدل السقيم، وأن يحتفظ للقوات المسلحة بمكانتها التي في ضمير وقلب وعقل كل مصري وطني مخلص، وأن يعلن التزامه بما أعلنه من قبل بأنه يحترم المطالب والارادة الشعبية وأنه جزء من السلطة التنفيذية التي يكلفها الشعب بواجبات محددة في الدفاع والحماية للوطن، وأنه ليس له مطامع سياسية ولا يرغب في القيام بأي دور سياسي في المستقبل، وأنه يقابل احتضان الشعب للقوات المسلحة طوال العقود والسنوات الماضية بنفس التقدير والاحترام للشعب الذي سيبدأ مرحلة جديدة وعهدا مجيدا من الديمقراطية الحقيقية السليمة. وعلى الحكومة أن تعلن أنها، وبعد ما أثارته الوثيقة من جدل وخلافات بين القوى والتيارات والأحزاب السياسية لن تفرض شيئاً، ولا تملك أن تفرض رأياً على ممثلي الشعب المنتخبين في البرلمان القادم كما تقضي القواعد الديمقراطية والأعراف الدستورية، وأنها وهي حكومة مؤقتة تعمل في غياب البرلمان الذي يمنحها الثقة ويراقب أعمالها ستتفرغ لواجبها الأول الآن وهو استكمال الاعداد للانتخابات البرلمانية القادمة، وذلك بتيسير إدلاء المصريين في الخارج بأصواتهم كما قضت الأحكام القضائية النهائية، وتنفيذ الأحكام الصادرة بمنع من أفسد الحياة السياسية سابقاً من الترشح للانتخابات القادمة، وتأمين العملية الانتخابية بكل الطرق والوسائل، وتوفير المقرات الانتخابية الكافية لمواجهة الاقبال المتوقع والمتزايد لتصويت 50 مليون مصري والذي قد لا يقل عن 35 مليون ناخب، ومواجهة الأزمات المفتعلة التي تربك الحياة وتوقع الضحايا وتريد إثارة الفتن في المجتمع أثناء الانتخابات. وعلى الأحزاب السياسية أن تركز خلال هذه الفترة على الاستحقاق الانتخابي وأن تنشغل بطرح برامجها السياسية والانتخابية على المواطنين في ندوات ومؤتمرات ولقاءات مباشرة لكي تتعرف على آراء الشعب المصري وتقترب من المصريين الأصليين الذين أثقلتهم الهموم والأعباء والمشاكل، ويريدون أن يختاروا عن بينة وبرهان ويتعرفوا على المرشحين والأحزاب مباشرة وليس من خلال الوسائط الاعلامية أو اللافتات الدعائية، وأن يثقوا في قدرة الشعب على الاختيار ويحترموا تلك الإرادة الشعبية، ويسعوا إلى تغييرها إذا لم يصادفهم الحظ في تلك المرّة وفقاً للتقاليد الديمقراطية ولمبدأ تداول السلطة. وعلى الاعلاميين أن يركزوا الاهتمام على أول استحقاق انتخابي جاد ومهم في تاريخ مصر الحديثة الذي سيحقق أولى خطوات نحو ديمقراطية سليمة طالما حلم المصريون بها، وأن يساعدوا على تحقيق التوافق الوطني العام، وأن نتعود على احترام رأي الشعب مهما خالف آراءنا، وأن نعيد الاهتمام إلى المهام التي سيقوم بها البرلمان القادم والحكومة القادمة وأخطرها هو سياسات التنمية البشرية والانتاجية والعمرانية التي تحقق لنا الاستقلال الاقتصادي وتعيد إلى المصريين وخاصة الشباب الثقة والانتماء في وطنهم وتعيد إلى الشعب القدرة على الحياة الحرة الكريمة بعد عهد الفساد والطغيان وتعيد إلى الوطن المكانة اللائقة به ليكون قاطرة الديمقراطية والحرية في العالم العربي، وتعيد إلى الثقافة العربية الاسلامية مكانتها بين ثقافات العالم كله كحضارة تتوافق مع الديمقراطية وقواعدها، ومع الحياة الدستورية وأسسها، ومع الرخاء والتقدم الاقتصادي القائم على منظومة العمل الجاد والاتقان والابداع. أمّا الحوار حول الدستور ونصوصه فلندع ذلك إلى وقت اختيار الجمعية التأسيسية وأثناء قيامها بواجبها الخطير ولن يكون هناك في النهاية إلا دستور توافقي يضمن الحقوق والحريات الشخصية والعامة ويحقق التوازن بين سلطات الدولة. وللشعب المصري كل الحق في أن يتصدى بكل قوة لمن يريد فرض الوصاية عليه، أيًّا من كان، وأن يتصدى بكل حسم للذين يريدون افساد العلاقة بين الجيش والشعب، وأن يقف في وجه من يريد تفتيت تماسك الشعب وتلاحم المجتمع بإثارة الفتن والعصبيات. هذا الشعب المصري العظيم يمضي في طريق استكمال ثورته المجيدة، هذه الثورة التي حماها الله وسيحمي مسيرتها الله سبحانه في عليائه، هذه الثورة التي أظهرت تلاحم الملايين مع الجيش في تناغم وانسجام لن يوقف مسيرتها أحد مهما تصور ذلك، ولن يستطيع أحد بإذن الله تعالى أن يعيد إنتاج النظام البائد ولا عودة العجلة إلى الوراء. وها نحن نرى عاقبة الظلم تطارد الظالمين في كل أنحاء العالم ولو بعد حين، فها هو رئيس وزراء ايطاليا "بيرلسكوني" يستقيل تحت ضغط الرأي العام وبسبب الحالة الاقتصادية السيئة التي وصل إليها الاقتصاد الايطالي، وهو احد الذين ساهموا بقوة في ظلم الشعب العراقي وقتل الملايين من أبناء العراق وأفغانستان. ها هو ينسحب من الحياة السياسية بعد من سبقوه كرئيس وزراء استراليا وأسبانيا وبريطانيا، والرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن وإدارته وسيأتي اليوم - إن شاء الله- الذي يحاكم فيه هؤلاء أمام محكمة دولية بسبب جرائم الحرب التي ارتكبوها في حق العرب والمسلمين، وسيحاكمهم التاريخ كما حاكمتهم شعوبهم وعزلتهم عن المسئولية. " إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ". (الفجر: 41). نقلا عن جريدة الأخبار