كان الكابتن حسن حمدي المدير والمشرف العام علي قطاع الإعلانات بالأهرام هو الذي أقنعني هذه المرة بالذهاب إلي دبي بمناسبة انعقاد معرض للإعلان تشارك فيه مؤسسة الأهرام ورأي أن المنتدي يسمح بعرض تجربة الأهرام الحالية والمستقبلية. فلم تكن الحالة في القاهرة تسمح بمغادرتها في مرحلة ما بعد الانتخابات العامة واختلاط الحابل بالنابل بين برلمانات وهمية, واجتماعات خيالية, وساعتها يكون الوجود علي أرض الواقع هو ما تتطلبه الظروف والمرحلة. ولكن من يعرف حسن حمدي سوف يجد أقواله في معظم الأحوال مقنعة, فالرحلة قصيرة, ومعرض الأهرام متميز ومحاضرة إضافية سوف تجعله أكثر تميزا, وما الرأي وهنا تأتي الحجة القاضية في معرفة ما الذي جري في دبي؟ وليس سرا علي أحد أنني كنت, و مازلت من المعجبين بالتجربة هناك حتي بعد أن واجهتها صعاب عدة, لأنني كنت من العارفين أن الأزمات عند مستويات عالية من الثروة تختلف كثيرا عن تلك التي تأتي مع الفقر والمسغبة وتكون فيها برغيف العيش أو برفع القمامة أو بطرح السؤال التاريخي كيف يمكن القضاء علي العشوائيات؟ قصة الأزمة إذن تختلف من مجتمع لآخر, وقد ظلت الصورة العامة عن دبي أنها تمثل واحدة من التجارب التنموية الفريدة في المنطقة, بسبب ضخامة مشروعات البنية التحتية والتطوير العقاري والتوسع في إنشاء المرافق السياحية والترفيهية والتدفق المستمر لرؤوس الأموال الأجنبية, واستضافة فيض هائل من العمالة الأجنبية خاصة القادمة من القارة الآسيوية, لدرجة أن هناك من يطلق عليها سنغافورة أو هونج كونج الشرق الأوسط حتي واجهت دبي أزمة اقتصادية حادة عقب الأزمة المالية التي اجتاحت دول العالم في النصف الثاني من عام2008, ويعود ذلك إلي الاندماج الكامل لتلك الإمارة في الاقتصاد العالمي, حيث يعتمد اقتصادها بدرجة أساسية علي التجارة والخدمات والسياحة فضلا عن الانتعاش المذهل لسوق العقارات. علي أي الأحوال نزلت مطار دبي ومن بعده إلي الفندق, وبدا الأمر فيهما وما بينهما أن دبي تعيش في أبهي عصورها. كان خط المترو الجديد يبدو أنيقا من بعيد, وظهر أن كثيرا من المشروعات التي شاهدت بعضا من بداياتها في أثناء رحلات سابقة قد اكتملت وأصبحت تعطي المدينة طابعا لما بعد الحداثة الذي تترجمه عمارة عالمية متعددة الأصول, وشعب بلا شك يمثل الإنسانية كلها من جميع الأجناس والأعراق, ولكن لها طابعا جديدا تماما, وهو أنها إنسانية متحركة غير ساكنة تتجمع مع كل هبوط للطائرات, وتتفرق مع مغادرتها مرة أخري, وبين الحضور والرحيل تجري أشكال من التفاعل في قلبها الأعمال والأشغال والبيزنس بالطبع, ولكن فيها من اللقاء ما لا يمكن حصره. هنا يبدو البشر علي اختلاف أصولهم, ولغاتهم أيضا, علي درجة من الأدب والتهذيب, والرغبة الأكيدة للتعامل مع المختلفين في اللغة والأصل والعرق والدين. باختصار توجد حالة فطرية من التسامح التي يتيحها مجتمع إسلامي في جوهره بكرم بالغ في مدينة لا تعيش رخاء فقط في الأسواق والمعاش, ولكن فيها أيضا مسحة جمالية حتي فشلت تماما في أن أجد ورقة في غير مكانها, وحدائقها وكأنها تم تصميمها ورسمها بموسي حادة لا تعرف خروجا عن القاعدة, أو بروزا عن الخط. صحيح أن المدينة تبدو أحيانا كما لو كانت جزءا من لعبة الميكانو التي يلعبها الأطفال ويجمعونها من قطع بلاستيكية نظيفة وناصعة الحال; وتغيب عنها تلك اللمسة من الأصالة والعمق وتراكم الحضارات التي توجد في مدن أخري حتي سنغافورة أو هونج كونج حيث لا يكون لديك شك أبدا أنك في مدينة صينية; ولكن من قال إنه لا يمكن اختراع مدن جديدة بأشكال جديدة. دبي تبدو هكذا وكأنها اختراع حضاري جديد, وقد جري تعديله وتقليده وتجاوز ذنوبه أو تعميقها في مدن خليجية أخري في أبو ظبي والدوحة حتي مدن أقدم مثل المنامة والكويت; ولا تعلم الرياض عما إذا كان واجبا عليها الاقتراب منها والتفوق عليها, أو الابتعاد عنها حيث البنية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية لا تسمح. من يشاهد المدينة لن يجد أثرا مباشرا ظاهرا للأزمة الاقتصادية التي جري كثيرا الحديث عنها, فقد تم افتتاح برج خليفة بعمق شاهق يتجاوز800 متر ويتكون من160 طابقا, ويتضمن فندقا وشققا فندقية ومحال تجارية ومكاتب وشققا سكنية, ويتسع بمجمله لنحو100 ألف شخص, وبلغت تكلفة بنائه20 مليار دولار, فضلا عن افتتاح فندق ومنتجع أتلانتس الذي تكلف1.5 مليار دولار. وكلاهما البرج والمنتجع ليسا مجرد مبان ولكنهما شهادة علي ميلاد مجتمع جديد, حيث كثيرا ما تساءلت في دبي وغيرها من الحواضر الخليجية لماذا يتم كل هذا البناء, والإجابة التي عثرت عليها أنها تتم للعالم أجمع. والإجابة بالطبع ليست بلا معضلات ومشكلات بعضها يرتبط بالهوية والذاتية, وبعضها الآخر يبحث عن طابع واتجاه, وبعضها الثالث أن الأضواء العالية التي تشع من مدن الخليج تجذب جحافل كثيرة قابعة في ظلام الفقر والتعصب, وحينما كانت روما حاضرة عظمي للعالم لم يكن هناك غرابة حينما زحف البرابرة عليها. حديث الساعة في دبي لا يزيد ولا ينقص عما إذا كانت الأزمة الاقتصادية قد عبرت أم أنها لا تزال تترنح, أم أنها لم تغادر قط. المتشائمون يقولون أن تجربة الطفرة الاقتصادية التي شهدتها دبي علي مدي السنوات الماضية انهارت, وأنها لم تكن تجربة تنموية حقيقية بل هي أقرب إلي نمر من ورق أو فقاعة لمعت واختفت, حيث تأثرت شركة دبي العالمية بشدة بالأزمة وتراكمت ديونها حتي باتت تطالب دائنيها بالتأخر في السداد كما حدث في نهاية العام الماضي, وأن هناك حالة من عدم الثقة بشأن الاستثمارات الآمنة في دبي. والمتفائلون يرون أن الإجراءات التي اتخذتها الإمارة أدت إلي تعافي الاقتصاد من تداعيات الأزمة المالية, خصوصا أنها بدأت تؤتي ثمارا إيجابية علي بعض القطاعات الرئيسية فيها, مثل قطاعات الخدمات المالية واللوجستية والسياحة والتجارة والتصدير. ووفقا لبعض التقديرات, فإن النجاح الذي شهدته عملية إعادة هيكلة دبي العالمية أنتج تداعيات إيجابية عديدة منها تدعيم الثقة في حكومة دبي وتوفير قاعدة نمو كبيرة لاقتصاد الإمارة. وفي رؤية هذا الاتجاه, فإن حالة التعافي التي بدأ يشهدها الاقتصاد العالمي بدأت تنتج تداعيات إيجابية علي الموقع الاقتصادي لدبي التي تتمتع بمكانة مهمة باعتبارها مركزا دوليا للخدمات اللوجستية والتجارة. وقد بدأ العديد من المؤشرات الاقتصادية يشير إلي ارتفاع معدل النمو في الإمارة علي خلفية الإجراءات الاقتصادية التي تتخذها الحكومة. فحسب تقديرات مجموعة سيتي المصرفية, فإنه من المتوقع أن يرتفع النمو الاقتصادي في دبي من1.6% في عام2010 إلي4.7% عام2011, و6.3% عام2012, كما أنه من المرجح ارتفاع إجمالي الناتج المحلي في الإمارة من249.98 مليار درهم في عام2009 إلي282.86 مليار درهم في عام2012 وتوقع التقرير السنوي الذي يصدره بنك ستاندرد تشارترد أن ينجح اقتصاد الإمارة في تحقيق معدل نمو يصل إلي4%, علي خلفية حالة النمو التي تشهدها القطاعات غير النفطية في دبي لاسيما الخدمات والسياحة والتجارة. ووفقا لهذا الاتجاه الثاني, فإن دبي مازالت تمثل مركزا مهما للمال والأعمال في المنطقة, ويستند هذا السيناريو إلي أن ثمة مؤشرات إيجابية أبرزها تحسن ثقة المستثمرين في اقتصاد الدولة وليس اقتصاد الإمارة فقط, واستمرار الدعم والإنفاق الحكومي علي مشاريع البنية التحتية, وارتفاع أسعار النفط وانخفاض التضخم, وهو ما دعا إلي استنتاج أن عام2010 هو عام التعافي من كافة تداعيات الأزمة المالية العالمية, واحتلت الإمارات المرتبة ال23 عالميا حسب مؤشر التنافسية العالمي2008 2009. وصنفت مجلة الاستثمار الأجنبي المباشرfdi دبي بأنها متصدرة مدن المستقبل جذبا للاستثمار في الشرق الأوسط خلال العام2009, الذي اشتدت فيه حدة الأزمة المالية العالمية, ويعود ذلك إلي مقوماتها الاقتصادية وبيئة الأعمال الجاذبة والبنية التحتية وجودة مستوي المعيشة والاستثمارات الأجنبية المباشرة والموارد البشرية والضرائب والتكاليف الأخري وتنويع مصادر الاقتصاد, وتلتها في المكانة جدة وأبو ظبي والمنامة والرياض ورأس الخيمة. أضف إلي ذلك أن أحدث تقرير ل جونز لانج لاسال, الشركة العالمية المتخصصة في مجال استشارات قطاع العقارات, الصادر في أكتوبر2010 يشير إلي أن دبي تمتعت بأكبر نمو في إشغال مساحات المكاتب بين25 مدينة عالمية رئيسية مثل دلهي ومومباي وبكين وبنغالور, نسبة لعدد السكان خلال فترة العامين ونصف العام الماضي, وأشارت إحصاءات أخري إلي أن المعدل الحالي لمستوي مساحات المكاتب في دبي للفرد حوالي36 قدما مربعا, وبذلك فإن دبي تحتل المرتبة الرابعة بعد نيويورك وباريس ولندن. وهناك واقعيون لديهم وجهة نظر ثالثة, وهؤلاء يرون أنه رغم كل الإجراءات التي اتخذتها الإمارة, فإن تبعات الأزمة المالية ما زالت موجودة وتؤثر علي مستوي النمو الاقتصادي, لاسيما في القطاع العقاري الذي ما زال يعاني من تبعات الأزمة. ووفقا لبعض التقديرات, فقد شهد هذا القطاع تراجعا ملحوظا خلال عام2010 سجل حوالي5%, علي عكس القطاعات الأخري التي شهدت ارتفاعا متفاوتا في معدلات النمو. لكن هذا الاتجاه يشير إلي أنه رغم أن الأزمة المالية العالمية تركت آثارا كبيرة واضحة علي أوضاع الإمارة الاقتصادية إلا أن المرحلة الأسوأ في الأزمة قد ولت بالفعل. وكان ذلك هو ما سمعته وشاهدته في دبي; ولا أدري لماذا لم يفارقني الخاطر أن يكون لدينا خمس مدن مثلها علي البحر الأبيض, وأخري علي البحر الأحمر؟ *نقلا عن صحيفة الأهرام