أعتقد أنه قد حان الوقت لنعتذر إلى «بهاء الدين قراقوش» عن ظلمنا له طوال ثمانية قرون. لقد ظلمنا الرجل الذى أثنى عليه المؤرخ العظيم ابن إياس فى مؤلفه البديع «بدائع الزهور» بقوله: «كان قراقوش القائم بأمور الملك، يسوس الرعية فى أيامه أحسن سياسة، وأحبته الرعية ودعوا له بطول البقاء». قراقوش كان يعمل مساعدا لصلاح الدين الأيوبى لمدة ثلاثين عاما، بل إن صلاح الدين كان يترك له تدبير أمور مصر حين يغيب عنها فى الحروب الصليبية، ويُنسب إليه أنه هو الذى حوّل البلاد من المذهب الشيعى إلى المذهب السنى، كما أنه أجرى عديدا من الإصلاحات فى نظم الرى والضرائب والتعليم، وأمَّن الطرق من اللصوص، وملأ خزائن الدولة بالمال ليساعد صلاح الدين على تحرير القدس. وكان أول عمل عظيم قام به قراقوش هو بناء «قلعة الجبل» ثم سور مجرى العيون الذى ينقل المياه من فم الخليج حتى القلعة، وهو عمل هندسى عظيم بكل المقاييس لما فيه من دقة وحرفية هندسية عالية، ثم شرع فى بناء سور عظيم يحيط بالقاهرة والجيزة، وحشد له آلافا من عامَّة الشعب، الذين قاموا بتقطيع أحجاره فى صحراء الهرم، ويعتبر هذا العمل الضخم أحد أسباب كراهية العامة لقراقوش، الذين أحسوا بمرارة السخرة خلال هذا العمل الضخم. وهذا هو ذنب قراقوش الوحيد الذى لم يغفره التاريخ رغم أعماله العظيمة، فلو كان قراقوش بيننا الآن لتمت معاملته باعتباره من أولياء الله الصالحين، رغم غبائه السياسى الذى جعل الناس تروج لما قاله منافسوه -وإن ظلموه ونسبوا إليه ما لم يفعله- وتغض البصر عن أعماله وتردد ما قاله عنه أحد العاملين فى ديوان صلاح الدين وهو أسعد بن مماتى صاحب كتاب «الفاشوش فى حكم قراقوش»، الذى أرَّخ فيه لحكم قراقوش وقال فى مقدمة كتابه: «إننى لما رأيت قراقوش لا يقتدى بعالم، ولا يعرف المظلوم من الظالم، والشكية عنده لمن سبق، ولا يهتدى عن صدق، ويشتط اشتطاط الشيطان، ويحكم حكما ما أنزل الله به من سلطان.. صنفت هذا الكتاب لصلاح الدين، عسى أن يريح منه المسلمين». وقد سرد ابن مماتَى أمثلة كثيرة تدل على غباء قراقوش وطغيانه، ومنها أنه حرم أكل «الملوخية» على العامة، وكان اسمها «ملوكية» أى طعام الملوك، وقيل إن غلاما لقراقوش قتل نفسا فحكم عليه بالشنق، ثم تشفع لديه الشفعاء وقالوا له: «إنه حدادك ينعل لك الفرس ويخدمك، فإن شنقته لم تجد غيره»، فنظر قراقوش ناحية الباب ووقعت عينه على رجل قفاص فقال: «هذا القفاص لا حاجة بنا إليه، فاشنقوه فى مكان الراكبدار»، وهى وظيفة الغلام الحداد عنده! قراقوش لم يكن فاسدا أو كاذبا، لكن مشكلته التى ستظل تطارده على مر الزمان هى أنه كان سلطة بلا عقل، فقد كان يظن أنه يفعل كل شىء من أجل مصر، ولم يهتم بسماع شكوى أهلها وكان كل ما يشغله هو أن يفعل ما يراه صحيحا دون النظر إلى آمال الناس وآلامهم، فذهبت إصلاحته وبقى غباؤه، حتى قيل إنه نشر قميصه على الحبل فوقع القميص، فتصدق بألف درهم وقال: لو كنت ألبسه ساعة وقوعه لانكسرت!