فى رمضان تختفي الشياطين ويمنع التليفزيون المصرى مسلسل «تحية كاريوكا».. من الممكن أن يوقف التليفزيون عرض المسلسل لو اكتشف مثلًا تواضع مستواه الفنى، وهذا بالتأكيد واجب على المسؤولين، ولكنك لو قرأت ما قاله عصام الأمير رئيس التليفزيون، فى تبرير إقصاء المسلسل عن خريطة ماسبيرو ستكتشف أنه يرحّب بعرضه بعد رمضان، وأن السر وراء المنع هو أن مسلسل «كاريوكا» يقدم حياة راقصة، وهو ما يتعارض مع الشهر الفضيل. وللعلم بطلة المسلسل وفاء عامر، لم ترتدِ بدلة الرقص طوال الحلقات، كما أن حياة تحية كاريوكا -التى حجّت إلى بيت الله الحرام عشرات المرات- لا تتعارض مع القيم النبيلة، فهى صاحبة قصة كفاح كانت فيها نموذجًا للوطنية والشهامة والجدعنة، عارضت الملك وأيّدت الثورة، ثم اختلفت مع رجال الثورة، ورفعت شعار «أسقطنا فاروق وجاء فواريق»، تقصد رجال الثورة، وأمضت فى المعتقل 101 يوم، ومن خلال مسرحها الذى حمل اسمها كانت كثيرًا ما تنتقد السادات، وتزعّمت إضراب الفنانين عام 87، الذين واجهوا فيه إصدار قانون 103 المكبِّل للحرية. هل أراد رئيس التليفزيون أن ينافق الرئيس محمد مرسى، ليثبت له أنه جاهز للنظام الجديد بتوجهه المحافظ، إنها تبدو إشارة مباشرة يقول فيها إنه يعرف المطلوب بالضبط فى المرحلة القادمة، قبل أن يطلب أحد ذلك، أم أن رئيس التليفزيون لا يعرف شيئًا عن حياة تحية كاريوكا، وتصور أن مجرد ذكر اسمها يعتبر من مبطلات الصيام؟! ما أزعجنى هو دلالة الاعتراض، لأنها تلقى ظلالًا سيئة على القادم فى التليفزيون الحكومى، وشهر رمضان من الممكن أن يصبح بمثابة ترمومتر لما هو آتٍ. بالتأكيد اسم وزير الإعلام الجديد سيحدد الكثير، والخريطة الإعلامية فى رمضان هى الملعب الأساسى الذى تجد فيه الشاشة معبرة عن توجه الدولة الرسمى. كان التليفزيون قبل إعلان اسم رئيس الجمهورية متخبطًا فى قراراته لا يدرى أين البوصلة، ولكنه راهن على أحمد شفيق بقوة، ولا أتصوره مجرد اجتهاد من وزير الإعلام اللواء أحمد أنيس، ولكن ولاء منه للمجلس العسكرى الذى عيّنه فى هذا الموقع، وأرى فى قرار استبعاد مسلسل تحية لأسباب أخلاقية كما يبدو فى تصريح رئيس التليفزيون أيضا محاولة لمغازلة التيار الدينى، لأن التليفزيون دائما ما يتلوّن طبقًا للحالة التى عليها السلطة. إلا أنه بهذا القرار لم يراعِ فروق التوقيت، لأن الناس تتابع الفضائيات، فإذا كان المسلسل جذّابًا، فكيف يفوّت التليفزيون فرصة عرضه على شاشته، وإذا كان سيئًا فهو لا يستحق العرض لا فى رمضان ولا شوال. كنا فى الماضى القريب نتحدث عن منتصف السبعينيات، نشاهد فوازير نيللى الاستعراضية الراقصة وبعد ذلك فى الثمانينيات كانت فوازير شريهان، فهل لم نكن وقتها مسلمين وصائمين؟! المائدة الرمضانية كانت حافلة بكل شىء، استعراضات ومسلسل كوميدى لمدبولى ومسلسل أطفال للمهندس، وآخَر اجتماعى لأسامة أنور عكاشة، مع مسلسل دينى إخراج أحمد طنطاوى، كان ذلك قبل بداية الفضائيات فى وقت كان فيه التليفزيون يملك كل المقدرات ويستطيع أن يمنع هذا ويسمح لذاك، الآن لا شىء من الممكن أن تمنعه، لأنك ستجده فى قناة أخرى، والسطوة على توجهات الرأى العام باتت تنتمى إلى زمن سحيق، ألغته الفضائيات، وقضى عليه تمامًا النت. الإعلام الرسمى يجب أن يضع أمامه نموذجًا أشبه بمحطة ال«بى بى سى»، دولة تدعم لكى تحافظ على الاستقلال، وإعلام ليس تابعًا لها، أتصور أن الإعلام لا يملك الآن -إذا أراد الحياة- سوى الاستقلال عن النظام ليصبح معبِّرًا عن الناس. هل إذا جاء وزير إعلام يؤمن بالحرية ويريد بالفعل أن يعبّر الإعلام عن الشعب هل يجد بين الإعلاميين من لديهم هذه القناعة؟ المأزق أن قسطًا وافرًا من الإعلاميين توارث جينات الخضوع للسلطة من جيل إلى جيل، ومنذ ثورة 52 ستجدهم صدى للحاكم، وإذا لم تأتِ تعليمات مباشرة فهم يجتهدون فى قراءة ما هو قادم من تعليمات. أشمّ فى قرار منع مسلسل «تحية كاريوكا»، محاولة لمغازلة التيار المحافظ. يؤكد رئيس التليفزيون لمن بيدهم الأمر أنه يستحق أن يستمر على الكرسى، فهو يحمل شهادة حسن السير والسلوك، تقول كلماتها بوضوح ومباشرة إنه على الموجة قبل أن يطلب منه أحد أن يضبط الموجة!!