«في الأسبوع الثالث بعد خروجه من العملية، شعر أليكس بتروفيتش نوسوف بأن حالته سيئة للغاية. أخذ ينزف. لم تأت الأدوية بجدوي، وصفّي، ربما، نصف دلو من الدم في المرحاض».. بتلك البداية الحادة المتجهمة، شبه الكافكاوية، تبدأ قصة «في المستشفي» للروسي المكرّس فالنتين راسبوتين، القصة التي صدرت طبعتها العربية عن دار آفاق، هي «قصة» لأن صفحاتها لم تتجاوز 65 صفحة، علي الرغم من أن الكتابة الحديثة تصنف هذا الحجم في فئة النوفيلا - الرواية القصيرة، ولكن من قال إننا بصدد مؤلف حداثي؟، الرجل الذي ارتبط بروسيا في أوجها السوفيتي، يتحسّر علي حال بلاده التي نتأملها هنا من خلال مستشفي يدخله بطل القصة بتروفيتش، الموظف علي المعاش في وزارة الغابات، وزارة ظنّ جاره في غرفة المستشفي أن عملها قطع أشجار الغابات، بينما حاول البطل شرح أن عملهم رعاية الغابات، الواقع أنه ليس متأكدًا بالضبط، لأنه التحق بعمله بصدفة بيروقراطية، وهو تقريبا لم يذهب إلي الغابة قط، لكنه يذهب هنا إلي المستشفي، والأكيد أن من يعانون فوبيا المستشفيات والأطباء لن يرتاحوا كثيرًا لهذا العمل، ليس لتشبعه برائحة المحاليل وأدوات الجراحة وصور الأشعة، في الواقع ليس بالعمل دموية فظة، ولكن لأنه يستخلص من المرض أشد ما يخيف فيه: القلق، اللاتأكد، والإحساس أن جسدًا فضّت الأدوات بكارته لن يعود كما كان، وسيبقي دائمًا مرشحًا للانتكاس، «لقد اجتاز أليكس بتروفيتش طاولة العمليات أربع مرات. يعيش علي الترميم مثل جهاز تسخين بمضخة، ولكن بعد عملية كان ينمو بداخله ،دون إرادة، هلع من شيء ما». عبر ترجمة واقعية، خشنة أحيانًا لأشرف الصباغ، نحيا مع بتروفيتش لحظات الهلع المتجددة تلك، نراقب استسلامه المتوجس للآلات والأنابيب التي يدسونها في جسده، غفوات المخدر، الاختلاط بالممرضات والعاملات: الشابات البعيدات عنه، العجائز اللاتي يشبهنه نوعًا، يراقب منهن عاملة النظافة العجوز «تعيش بالقرب من المستشفي، تأتي مبكرًا. وبعد ذلك تشرب هي الأخري كوبا من الشاي الذي يكون قد تم تسخينه في المطعم حين تنتهي من العمل، وبمجرد أن تبدأ ارتشافه تظل ترقب في لا مبالاة كيف يوحلون الممر الذي غسلته للتو». المرض كما هو معروف لا تقتصر معاناته علي الألم الجسدي، هناك معاناة الالتحاق بالمستشفي ثم الحفاظ علي مكانه فيه الذي يكلفه الكثير، تأخر زوجته في زيارته رغمًا عنهما بسبب تصريح الدخول، الخلافات اليومية - التي تحفظها الممرضات - بينه وبين زميل الغرفة بسبب التليفزيون والصحف، إن زميله مثله، قضي حياته في ظل قناعات وأهداف يسخر منها التليفزيون والسياسيون الآن، لكن الجار لا يعاني الحسرة نفسها فهو «من الناس النشيطين علي الدوام، الذين يأكلون كثيرًا، ويشربون كثيرًا دون أن يعانوا من تأنيب الضمير حيث يمررون كل شيء بداخلهم مثلما يمررون الفضلات»، أما بطلنا بتروفيتش فإنه يعترف «كل ماخرجت به من الماضي يمكن جمعه في حقيبة تعلق علي الظهر»، ولكن أشد ما يؤلمه هو أنه حتي لو عاد إلي منزله، فإنه «مضطر بنفس تلك الكآبة المستعصية لأن ينظر في اتجاه مجهول من نافذة شقته، ويتيقن في كل مرة أنه لا شيء أكثر من ذلك يمكن انتظاره من الحياة»، مع ذلك، يقترب من التعافي ويسمح له بنزهة بين الأشجار، فنصغي معه هناك إلي صوتي شاب وفتاة «لم تستطع أن تتماسك فأجهشت ببكاء شديد: أحبك يا فيتكا. - هه، ماهذه المصيبة - أجاب هو باستخفاف متعمد - وأنا أيضًا أحبك، ولكن لاأحد يبكي بسبب ذلك».