وقعت من الضحك حين باغتني الاستاذ محمود السعدني رحمه الله وقبل أن يكمل سلامه عليَّ قال: هو انت يا بني بتكتب في آخر زادك؟ وبدأ يشرح لي الفكرة بطريقة ودودة ومحبة ولاذعة في الوقت نفسه: هو انت لازم تقول كل حاجة في مقال واحد؟ هو الجرنال مش هايطلع تاني؟ هو انت بتكتب وانت بتنهج ليه؟ على مهلك، الدنيا مش ها تروح، وإن راحت تبقى عملت اللي عليك، قلت اللي انت عايز تقوله، في الوقت المناسب، وياما هاتكتب، "لسه السنة جدامنا طويلة" على رأي الواد سعيد صالح.
كان هذا هو أحد أهم الدروس التي وعيتها مبكراً بفضل كاتب عملاق مثل الأستاذ السعدني، تذكرته وتذكرت صديقه وأبي الروحي الأستاذ محمد عودة، وتساءلت كيف تكون ردود أفعالهما معنا اليوم ونحن في مراحل ثورة بتروح وتيجي، تعلو وتنخفض، تتقدم وتتراجع، تنهض وتنتكس ، وتمنيت لو أن السعدني بسخريته بيننا ، ولو أن عودة بتفاؤله الذي بغير حدود بين ظهرانينا.
أقول لكم وأمري لله الأستاذ عودة كان سيؤكد لي بيقين العاشق الولهان أن مصر أخيراً ستربح رئيساً يليق بها، وأن هذه الثورة لن تنهزم، وأن مصر الجديدة على الأبواب، وأننا سندرك مصر التي حلمنا بها طويلاً بعد ثورة هي الأجمل والأنبل في تاريخ ثوارتنا كلها... أما الأستاذ السعدني فكان سيضحك من كم التفاؤل الذي في كلام عودة، وكان سيوجه كلامه لي قائلاً: هو انتم عايزين رئيس؟، ولا لا مؤاخذة عايزين نبي مرسل؟ ويسترسل قبل أن يعطي أحداً فرصة للإجابة على السؤال الافتراضي الذي لا ينتظر اجابته من أي واحد فينا ويقول: يا اخوانا دي مش آخر مرة هاننتخب فيها رئيس.. كلها أربع سنين، يمروا قوام وننتخب واحد غيره، هو أول ما نشطح ننطح.. عايزين كل حاجة في أول رئيس بعد ثورة ما لهاش مثيل في ثوراتنا اللي قبل كده، عايزينه عادل، وديمقراطي، ومدني، وإسلامي، وطويل، وكاريزما، ونفسه حلوه، ومننا وعلينا، نعرف نكلمه، وناخد وندي معاه، وعايزينه عمر بن الخطاب، وعايزينه جمال عبد الناصر، وعايزنيه سعد زغلول، وعايزينه عرابي، وعايزينه أم كلثوم كمان..
وقبل أن ينطق أحد ببنت شفة يواصل السعدني متدفقاً ومندفعاً بصوت عال: خلينا المرة دي نجيب رئيس يكون عادي.. رئيس مش كامل مكمل من مجاميعه.. رئيس يصلح لمدة أربع سنوات، مش للعمر كله.. رئيس يقدر يعدي بينا من الزنقة اللي احنا فيها دي.. رئيس مش هايعمل كل حاجة ..لكن هايعمل أهم حاجة: يرتب الأمور المكركبة..
رئيس مايكونش بطل، مفيش زيه، ماجبتهوش ولاده..لا المرة دي احنا عايزين رئيس جابته ولَّاده مصرية طبيعية، زي أي ام مصرية ... رئيس مش فرد ، لأ، عايزين رئيس مؤسسة ، رئيس فريق .. مش رئيس من راسه.. رئيس فيه حته مننا...من كل واحد فينا...
مش لازم يكون بيفهم في كل حاجة .. لكن لازم يكون بيفهم حاجة واحدة، ازاي يجيب اللي بيفهموا في تخصصاتهم ويحترم مشورتهم. عايزينه يكون مسلم زينا...بيحب المسيحيين زي ما بنحبهم...يعرف ربنا ويخاف منه... مش لازم يكون اخواني، لكن الاخوان ما يخافوش منه.... مش لازم يبقى سلفي، لكن السلفيين ما يحسوش انه بره الملة... مش لازم يبقى شيوعي، لكن الشيوعي ما يحسش انه هاينضام تحت حكمه.. مش لازم يبقى ليبرالي، لكن الليبراليين يعتبروه واحد منهم... لكن لازم يكون داق الفقر عشان يحس بالفقير.. ولازم يكون داق السجن عشان يحس بقيمة الحرية والكرامة لكل مواطن..
عاوزين رئيس يعرف يخلي البلد تحترم تلت حاجات: كرامة المواطن وحريته... سيادة القانون ونفاذه على الجميع كبير وصغير غني وفقير ... كرامة الوطن واستقلاله.. اقتربت منه حتى صار المشهد لا يضم غيرنا نحن الاثنين وسألته كأني أستفتيه في أمر يهمني رأيه فيه، من تظن في هؤلاء المرشحين ينطبق عليه كلامك يا أستاذ همس لي باسم احد المرشحين ، وكان وجه محمد عودة كوجه القمر في يوم تمامه وهو يهمس في أذني: مش قلت لك إن الواد السعدني ده مهما يشطح لكنه في الآخر حقاني... ولو على نفسه..
ووجدتني وحيداً تغمرني السعادة لأنه ذكر الاسم الذي كنت نويت أن أعطيه صوتي .. ليس لأنه صديق العمر الطويل والجميل ... ولا لأنه كما أعرفه مناضل حقيقي من أجل وطنه الذي يعشقه... ولا لأنه وهب نفسه للنضال السياسي منذ كان صغيرا وحتى كاد ينهي العقد السادس من عمره .. ولكن لأنه ذاق كل ما يعاني منه شعبنا العظيم، ذاق مرارة السجن، وذاق عضة الفقر، ويمتاز منذ كنا شباباً بشخصية قادرة على التجميع، ديمقراطي بالطبيعة، منحاز في كل سلوكياته إلى طبيعة الشعب المصري السمحة ، وله فوق كل ذلك ابتسامة ساحرة تلين القلوب وتستميلها، وقلبه عامر بإيمان صوفي عميق ويحدوه الأمل في أن الغد يحمل لمصر أفضل ما حلمت به من مستقبل زاهر وحياة كريمة وعزيزة..
أعترف لكم أن المشهد الذي يلح علي هذه الأيام تلك المظاهرة الحاشدة بألوف من طلاب جامعة القاهرة وهي تهتف بصوت يعلو فوق صوت ساعة الجامعة الشهيرة وهي تردد يوم نجح حمدين في الفوز برئاسة اتحاد طلاب القاهرة رغم أنف ادارة الجامعة: حمدين صباحي أنا عايز حمدين صباحي... ويشهد الله أنني أقولها صادقاً: إن حمدين صباحي هو الرئيس الذي يمكن أن يشعر كل مواطن مع نجاحه بأنه هو نفسه الذي أصبح رئيسا لمصر .. لأنه فعلا واحد مننا ... ارجوكم انتخبوا أنفسكم لرئاسة مصر... انتخبوا واحداً منكم..بل انتخبوا أنفسكم...