سألني الإعلامي البارز وائل الإبراشي عن الرأي في حركة المحافظين التي أعلنت مؤخرا فاهتديت إلى عنوان المقال. الأصل الذي أنتج ذلك الفرع الأعجف، هو أن السلطة الانتقالية، أي المجلس الأعلى للقوات المسلحة وحكومته برئاسة د. عصام شرف، يعطون الانطباع بأنهم يتصرفون بفكر ويعملون بأساليب، تدل على أنهما يفهمان دورهما التاريخي كمرحلة إصلاحية في نظام الطاغية المخلوع وليسا رعاة لثورة شعب مصر الفل الرائعة وحماة لها على طريق اكتمالها، تحقيقا لغاياتها النبيلة في الحرية والعدل والكرامة الإنسانية للجميع في مصر، بما ينطوي بالضرورة على تطهير مصر من آثام النظام الساقط المستبد والفاسد، فكرا وشخوصا وأساليب عمل. أما رئيس الوزراء د. عصام شرف فيبدو، بالإضافة، أنه تعلّم السياسة، كخبير فني بارز في مجاله، في مجلس سياسات جمال مبارك في الحزب "الوثني" المنحل، وظل تلميذا نجيبا لتلك المدرسة، متمرسا في الوعد بما يعلم أنه لن ينفذ وفي التسويف والمماطلة في مواجهة مطالب الشعب أو الثورة بعد يناير 2011، بما فيها مطالبته بأن يحترم الوعود التي يقطع هو على نفسه. ولنبدأ بالوزارة المجددة التي طال انتظارها طويلا، بعد أن أفلحت الموجة الثانية من ثورة شعب مصر في أن تنتزع لعصام شرف ، ولمصر المستقبل، من المجلس الأعلى للقوات المسلحة حق رئيس الوزراء في تشكيل وزارته. فبماذا كافأ د. عصام شرف، والسلطة الانتقالية برمتها، الشعب على انتزاعه لحق رئيس الوزراء في تشكيل وزارته بحرية؟ أولا، عاقبت السلطة الانتقالية الشعب بما يشبه "جزاء سنمار". حيث تجتهد السلطة الانتقالية الأن بتوظيف تحالف من الشرطة العسكرية والمدنية، و"الأهالي"من الشقاةالصعاليك المستأجرين إن اقتضى الأمر، لوأد أي احتمال لتجدد الفعل الثوري من خلال منع التظاهر والاعتصام بالعنف والأذى، بالمخالفة الصريحة للإعلان الدستوري المجلس الأعلى للقوات المسلحة نفسه ولكل المواثيق الدولية التي أعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة أنه يحترمها. ثم بعد لأيٍ، خرج عصام شرف على الشعب، بوزارة خلت للحق من بعض، وأوكد بعض، من كان واجبا التخلص منهم من أعضاء وزارته السابقة، وان أبقت على أو ضمت وزراء جدد من مجلس سياسات جمال مبارك. وفي النهاية، لم يفلح د. شرف، بكل تأكيد وبأي معيار جاد، في تشكيل وزارة من شخصيات تمتلك على الأقل فرصة لتبني أي فكر ثوري، حتى لا نقول شخصيات ثورية. وليس هذا بمستغرب. فلن تحظى مصر بوزارة ثورية يرأسها د. عصام شرف، مع المحبة والتقدير للإنسان الدمث الخلوق. إذ يجافي المنطق أن يُشكِّل حكومة ثورية الطابع، من قَبِل في مرحلة سابقة أن ينتمي لمجلس سياسات يرأسه جمال مبارك في حزب الحاكم المنحل وأن يكون وزيرا في حكومة ذلك الحزب الوثني برئاسة المجرم المدان أحمد نظيف، وهو يعلم على الأقل بداع من قرب التخصص، من هو "نظيف" هذا، ولو كان لديه من الاستقامة الشخصية ما يكفي للاستقالة من تلك الحكومة السافلة بعد شهور. ولنأخذ مثلا واحدا على تشكيل الوزارة الجديدة التي أجهدنا عصام شرف في انتظارها. لا شك أن د. شرف لم يكن ليجد اسوأ، في وزارة بعد قيام الثورة الشعبية العظيمة، من وزير المالية الذي ورثه من آخر وزارات الطاغية المخلوع، وكان، للعجب، عضوا في "مجلس سياسات" جمال مبارك، وعيّنه الطاغية المخلوع عضوا في مجلس الشعب الأخير قبل الثورة، ثم رئيسا للجنة الاقتصادية بالمجلس بعدها مباشرة، وبعدها بقليل عيّنه الطاغية المخلوع وزيرا للمالية في آخر وزاراته برئاسة أحمد شفيق. كما أن الكاتب يكن مودة عميقة للدكتور حازم الببلاوي، واحتراما أكيدا له كاقتصادي ليبرالي، واسع الأفق والثقافة، ولكن هذا لا ينفي أن د. الببلاوي لم يكتب كما كان ينبغي على مثله، ولو فقط كاقتصادي ليبرالي قدير ومثقف ذو أفق حضاري وإنساني رحب، في نقد السياسات الاقتصادية المعيبة والمدمرة لنظام الرأسمالية المنفلتة والاحتكارية التي تبنى النظام الساقط، والمقارنة هنا يجب أن تعقد مع طيب الذكر د. سعيد النجار الذي فرض عليه تبنيه المخلص لليبرالية الحق أن يكون في أواخر سنوات حياته ناقدا عنيفا للنظام السابق، في الاقتصاد وفي السياسة على حد سواء. وليس بمستغرب إذن أن أكد وزير المالية، نائب رئيس الوزراء، مؤخرا أنه لا يوجد اتجاه لتعديل او إلغاء القرارات الحكومية التى صدرت عن وزارة المالية خلال الأشهر الماضية مشددا على استمرار السياسة المالية الحالية، نفسها، التي صاغ وزير المالية المقال، وليست إلا امتداد لسياسات مجلس جمال مبارك مع بعض التجميل الشكلي والمخادع على الهوامش. ولنأخذ مثلا واحدا على فساد حركة المحافظين، أي اللواء عادل لبيب الذي يعتبرونه محافظا "هدية" ويتكرمون على محافظة قنا بإعادته إليهم. هو كان من أركان جهاز "أمن الدولة" المنحل، ومن ثم، كان يجب أن يخرج في أي تطهير جاد وليس أن يعتبر زينة حركة محافظين في عهد الثورة. ولا ريب أن الرجل إنجازات لا تنكر في قنا، تؤهله لأن يكون رئيس هيئة للنظافة والتجميل ربما، ولكن يبقى أن من أبرز إنجازاته وقت كان محافظا لقنا هو تسمية كل شارع أو ميدان قام بتجميله باسم الطاغية المخلوع أو "السيئة" الأولى للعهد الساقط، تاركا لنا ذكرى أليمة ودائمة عن عهد الحكم التسلطي الساقط. كما ارتكب أثناء كان محافظ الإسكندرية جرائم يندى لها الجبين ويستحق عليها العزل وليس المكافأة، وأكتفي بذكر امتناعه العمدي عن تنفيذ حكم قضائي واجب النفاذ، يصون حقوق أهالي أرض "طوسون" في بيوتهم وأرضهم التي كان حيتان الحزب المنحل، وللفُجر المفضوح ممثلي المنطقة في مجلسي الشعب والشوري المنحلين، يسعون لنهبها من أصحابها الشرعيين. ومن مثالب حركة المحافظين أيضا أن غلب فيها الشيوخ والعسكريين. لا تثريب في أن يكون للعسكريين نصيب عادل من جميع المواقع القيادية في المجتمع بشرط المقدرة والكفاءة بالطبع. فالعسكريين من أبناء الوطن والشعب ويتعين أن يكون لهم نصيب من التقدير ومن تحمل المسئولية بما يتناسب مع وزنهم النسبي بين المصريين. ولكن إعطاء أفضلية كاسحة للعسكريين في المواقع القيادية في المجتمع، كما كان دأب النظام الساقط في حالة المحافظين، يشي بسيادة منطق "أمن الدولة" المنحل تحت النظام الساقط، ويهدر مبادئ العدالة وتكافؤ الفرص بما يهدد غايات الثورة في الحرية والعدل والكرامة الإنسانية، مؤسسا لأرستقراطية عسكرية تتنافي مع مدنية الدولة التي يصر المجلس الأعلى للقوات المسلحة على حمايتها وضمانها. ومن المتوقع على أي حال بالتحول نحو الحكم الديمقراطي الصالح أن يخرج ضباط الشرطة من زمرة العسكريين، حين تتحول الشرطة، وفق الدستور والأصول، إلى هيئة مدنية. وقد كان حريا بحكومة تزعم حماية الثورة، ما دامت لها حرية التعيين، أن تعطي أفضلية واضحة لأجيال الشبيبة الواعدة في جميع مجالات الحياة والمهن في وظيفة المحافظ، المدنية بالطبع. غير أن الحل النهائي لمشكلات تعيين المحافظين وضمان خدمتهم للصالح العام، في سياق إقامة الحكم الديمقراطي الصالح في مصر، هو في انتخاب المحافظين بالاقتراع الحر المباشر وإخضاعهم للرقابة وللمساءلة، من خلال مجالس محلية منتخبة في انتخابات حرة ونزيهة، وأجهزة رقابة ومحاسبة وقضاء مستقلين قطعا، طوال توليهم المنصب العام، وقبله وبعده. إلا أن فرصة تحقق هذا المسار لا تبدو كبيرة في ظل استمرار ذهنية السلطة الانتقالية الراهنة وأساليبها. وليس من سبيل لقوي الثورة الشعبية إلا أن تتسامى على محاولات التدجين، بتوخي اليقظة الثورية واستمرار الفعل الثوري، بالتظاهر والاعتصام السلميين، في حماية السلطة الانتقالية، حتى تكتمل ثورة الفل العظيمة.