بجوار الكعبة المشرفة بزيّ الإحرام , أو في حضن طفل يتيم بملجأ للأيتام , أو في ميدان التحرير بجوار الدبابة ..., صورٌ لا أحبها علىالإطلاق .., أو بالأحرى , أعتب كثيراً على صاحبها ! بعض اللقطات في حياتنا تصبح أكثر صدقاً إذا لم تُسجَّل ؛ تلك اللحظات التي تحمل خصوصيةً ما , لا ينبغي هتكُها , كالصلاة ورفع الكفين بالدعاء في خشوع , وكفعل الخير , أو النضال الوطني ..., كلها أعمال لا تصلح إلا ب" النية " , ولا تصدق إلا بإخلاص القلب , ويفسدها التباهي والاستعراض ! ..... إلا في حالة واحدة , معها تصبح اللقطة أصدق , وأعمق , وأنبل : أن تكون الصورة " جماعية " على امتداد شارع طويل , اصطففن بانتظام وحماس , ترتسم على وجوههن ملامح السعادة والفخر ؛ وقفن جميعاً يستقبلن الوافدات بنظرات مشجعة ودود , وبإيماءات مطَمْئنةٍ : أن أقبلي وشاركي معنا في جذب المولود الجديد ,سيأتي معافى بإذن الله طالما بقي صفنا مستوياً ملتحماً , متصلاً بطول الطريق ..... كان علىَّ – طبقاً للنظام الذي التزمن به جميعاً عن رضا وطيب خاطر ودون ضجر أو تذمر – أن أجتاز الطابور إلى آخره حتى آخذ دوري مثلهن ؛ سرتُ أتأمل الوجوه , كلها نضرة صابحة , الصبية منهن والناضجة والعجوز ! , كلهن ينتظرن في غير يأس , العيون ترنو إلى الغد بشغفٍ وبهجة, لاشك لديهن في أنه أجمل ... محجباتٌ وسافرات ومنتقبات , يقفن في تلاصق, كأنهن يحتمين ببعضهن , تحتمل إحداهن الأخرى في حنوٍّ ورقيّ ؛ المرأة البسيطة بجوار الأرستقراطية , لا حقد هنا ولا تعالٍ هناك ؛ يلهو الأطفال بجوارهن , الكثير منهم يحمل الأعلام .., مرَّت بجوارنا سيارة "ملاكي" فاخرة , لم يكتفِ صاحبها برفع العلم عليها أو لصقه على زجاجها , وإنما طلاها , كلها , بألوان العلم الثلاث ..... الشمس في ذلك اليوم ساطعةٌ بكل دفئها , بات الجو حاراً , والوقوف في منتصف الطريق لم يجعل من سبيل للاحتماء من حرارتها التي سخَّنت الأسفلت وحرَّقت الأقدام , وتسلَّطتْ على العيون اللامعة , فما اكترثت واحدة من المنتظرات ولا قررت إحداهن المغادرة ؛ الحب هوَّن كلَ شئ ! لم أكد أصل إلى آخر الطابور لآخذ مكاني حتى اكتمل بعدي قدر ما أمامي من مصطفات ! , بادرَتنا إحداهن بالسؤال : " ح تقولي نعم واللا لأ ؟ " ؛ فأجابت واحدة : " لأ طبعاً " , وقالت أخرى : " أنا ح اقول نعم علشان البلد تفوق بقى وتستقر " , فيما بدت بعضهن متحفظات في الإجابة , رافضات لفكرة السؤال ذاتها باعتبار القرار – أو الاختيار - شأناً خاصاً لايجوز لأحد التدخل فيه ..... , عادت السائلة , الشابة الصغيرة , تحاور السيدة الناضجة صاحبة " نعم " , معربةً عن اعتراضها على ربط الاستقرار بالموافقة على التعديلات , شارحة وجهة نظرها في الرفض تطلعاً لدستور جديد يليق بحجم الثورة وبتطلعات الشعب الثائر المنتصر ..., كان النقاش شيقاً بالفعل , فضلاً عن بثه طاقة أمل إستثنائية ! ... دخلتُ في النقاش معلنةً عن اختياري " لا " , وشاركتنا السيدة المنتقبة , التي تقف بعدي في الصف , مؤيدةً ل " نعم " ؛ وللحق أنني لم أشعر في السيدة الناضجة إنقياداً أعمى , ولا في المنتقبة تعصباً أو حدةً في الحوار ؛ كانت كل منا تمتلك حجة ما – تتفاوت قوة كلٍ منها بالتأكيد – تقنعها وتجعلها متمسكة بوجهة نظرها , وتشاركت معنا الحوار جاراتُنا في الصف , فأصبح النقاش مثمراً ومثرياً للفكر..... , بين الحين والآخر يأتي زوج إحداهن حاملاً طفلهما ليخبرها , في بهجة , أنه قد وضع صوته وينتظرها ... وبينما استغرقََنا النقاش , وجمعَنا إحساسٌ حميم – برغم الاختلاف - , أقبل علينا شابٌ بدا متحمساً مبتهجاً , حاملاً بين يديه " كاميرا " صغيرة , أخبرنا أنه يصور " فيديو " ليذيعه على موقع "youtube " الشهير .., راح يتأمل بعينيه , وبعدسته , صف النساء المصريات ؛ كلهن تركن بيوتهن في يوم إجازة , ووقفن في جوٍ قائظ , يتبادلن الابتسامات مع أطفالهن وأزواجهن وآبائهن , الذين وقفوا ينتظرون في سعادة ورضا وفخر ..., فجأة اقتحم آذاننا صوتٌ حاد , أتى صاحبُه من بعيد , من أول الطابور , وراح ينهى الشابَ – المصوِّر – عن تصويرنا لأن هؤلاء هن " أمهاتنا واخواتنا ومايصحش كدة " ! ..الغريب أنه لم يسألنا قبل أن يفعل ذلك , ولا اشتكت واحدة منا ولا استنجدت به ليفعل ! , تساءلتُ ,ومعي جاراتي , عن " العيب " في تصويرنا في مشهد عام رائع , في يوم عيد وطني كهذا , خاصة ونحن نقف في الشارع بكامل هيئتنا التي يرانا بها الجميع , كلٌ منا بحسب ما ارتضته لنفسها من مظهر بين سفور وحجاب ونقاب , نفس النساء اللاتي وقفن في ميدان التحرير ضمن ملايين المصريين والتقطت لهن مئات – وربما آلاف – الكاميرات صوراً وفيديوهات نشرت وأذيعت على جميع القنوات الفضائية ومواقع الإنترنت , .. سألته فلم أجد لديه رداً منطقياً ؛ بل وجدته مصراً على أنه " ماينفعش كدة علشان عيب " ! هكذا , دون منطق أو سند , أو مرجعية , بعدها بأيام فوجئت بأخبار عن تهديدات للنساء السافرات في الإسكندرية , نُسبت لجماعات سلفية ؛ ثم أخبار مفزعة عن عمليات " هتك عرض" تمت بحق متظاهرات , تحت مسمى " اختبارات عذرية " ! ...لا أكاد أصدق أن من قام بها هم بعض أفراد الجيش ؛ ربما هي أخطاء فردية , أو تجاوزات سيئة المقصد من عدد محدود أراد الوقيعة , وربما أيضاً تحمل انعكاساً لتيارٍ ,لن أقول متشدد بل هو أعمى عن الحق وعن كل فضيلة ؛ ولكني شعرت بالحزن الشديد , لا تسع الكلمات حجم ما أصابني من غضب وألم وخجل , وخوفٍ على غدٍ بات مجهولاً , ربما تأتي شمسه بالظلام والبرد والفُرقة ! ..., كأن أيد خفية تريد عن عمد أن تحذف الأنثى من المشهد ! تارةً بإخفائها تحت النقاب – بالجبر - , وتارة ب" تعريتها " ليصبح خروجها إلى الشارع في حد ذاته فعلاً فاضحاً ! ؛ وفي كليهما إهانة وإذلال وقتل للإرادة ..... هذا الفكر المتعسف الخالي من المنطق والحجة , الذي جعل من صورة المرأة في المشهد العام " عورة " , ربما لن يتوانى غداً عن اعتبار " صوتها " في الانتخابات .." عورة " ! هل نحن مقبلون على زمن يُفرض فيه على النساء زى معين ؟ هل سيخرج علينا – كما قرأتُ على بعض المنتديات تعليقاً على بيان منظمة العفو الدولية حول اختبارات العذرية – من يفسر قوله تعالى : " وقرن في بيوتكن "على أن عمل المرأة لا يجوز , وأن خروجها للاستفتاء والانتخابات حرام !؟ هل سنضطر للعودة مرة أخرى إلى التذكير بالدور" السياسي " الذي لعبته المرأة في الإسلام بدءاً بمشهد أسماء بنت أبي بكر ودورها في رحلة الهجرة , والنساء اللاتي بايعن الرسول – عليه الصلاة والسلام - , والمرأة التي\ جادلت عمر بن الخطاب , و" الشفاء " المرأة التي كانت تعالج المصابين في الغزوات .., وغيرهن كثيرات ..؛ لا أظن أنهن قد تخفين عن الأنظار وهن يفعلن هذا في ملأ من رجال ونساء ؛ فهل كانت مشاهدة الرجال لهن في تلك المواقف المشرفة هو إثمٌ باعتبارهن عورة !؟ , لو كانت الكاميرا قد اخترعت في زمانهم , ووقف أحدهم ليسجل المشهد , هل كان الرسول – عليه الصلاة والسلام – سيأمره بعدم تصوير النساء ؟!! ... حقيقةً لا أستطيع أن أفهم منطق هؤلاء , في المنع من جهة , وفي فرض إرادتهم من جهة أخرى ! ..... لم يخفف من وطأة حزني وغضبي وتساؤلاتي القلقة على ما يمكن أن يحمله لنا الغد , إلا تذكُّري لختام المشهد الذي جرى يوم الاستفتاء ؛ عندما التفت إلينا الشابُ المصوِّر – معطياً ظهره للشاب الذي نهاه بغير حُجة – ليسأل صاحبات الشأن : " هل يضايقكن أن أصور الصف لأعرضه ضمن فيلمي عن الاستفتاء ؟ " ..؛ فأجبناه جميعاً : " لا " وكم كانت سعادتي وأنا أسمع أصواتَ نساءٍ – منهن البسيطات جداً – يقلن بصوت قوي واثق : " صورنا خلي الناس تشوف وتعرف ان الستات نزلت تقول رأيها "... كم هن جميلات راقيات واعيات ! ..... من اختارت منا الحجاب , ومن اختارت السفور , ومن اختارت النقاب , لم توافق واحدةٌ منا على أن تُحذف من المشهد !