غني عن البيان أن في هذه الدنيا الواسعة أنواعاً متعددة من أفعال «الإنشاء» تختلف باختلاف طبيعة الشيء محل الفعل وموضوعه، منها علي سبيل المثال لا الحصر «الإنشاء اللغوي» والإنشاء أو البناء المادي «الهندسي»، وهذا النوع الأخير بالذات صار مشهورًا جدًا في الآونة الأخيرة بعدما تفتقت أذهان عباقرة نظام الحكم التعبان بتاعنا (ومن خلفهم جوقة الكتبة والعاملين بالأجرة في الخدمة «الإعلانية» للحكومة) عن استخدام لفظته في نعت جدار العار الفولاذي الذي يتم إنفاق الملايين حاليا علي بنائه لإحكام حلقات الحصار الإسرائيلي الإجرامي علي أهل غزة، بحيث لم يعد هذا الجدار جدارًا ولا حاجة أبدًا وإنما مجرد «إنشاءات هندسية» مبهمة ومجهولة الهدف والهوية.. يعني علي طريقة «تدليع» أمراض مثل الكوليرا والتيفود وغيرهما بإطلاق مسمي «أمراض الصيف» عليها، ووصف زيادة أسعار السلع والخدمات بأنها فقط «تحريك» لهذه الأسعار، وكذلك اعتبار عمليات النهب المنظم وتبديد ثروات البلد «إصلاحا اقتصاديا»، أما القمع وتزوير الانتخابات والحكم بالبوليس والطوارئ فهي كلها معالم وشواهد «أزهي عصور الحرية والديمقراطية».. إلخ !! طبعا ليس مجديا تذكير هؤلاء القوم بحقيقة أن الجدار الملعون الذي يبنونه هو بالضرورة «إنشاء هندسي» وأن إقحام الهندسة في اسمه لا يغير من الأمر شيئًا ولا يعفيهم من الفضيحة، ومع ذلك لابد أن أقر وأعترف بأن التلاعب الحكومي العبيط بالألفاظ والأوصاف في هذا الموضوع كان مناسبة لكي أستمتع (وربما كثيرون غيري) بالفرجة علي منتجات ورشة «إنشاء لغوي» هائلة لا تقل عبطًا وهيافة انطلقت عبر أبواق وسائل «الإعلان» الحكومية بجناحيها العام والخاص وانخرط فيها زملاء أعزاء تم الكبس بنجاح علي «زر» تشغيلهم، فإذا بهم يتحفوننا بفيض كاسح من الكلام الفارغ تفاوتت مستويات جودته الكوميدية وبراعته الإنشائية بتفاوت واختلاف حظوظ مبدعيه من التعليم والثقافة أو الأمية والجهل، فبينما بدا القطاع الأكبر من الزملاء المذكورين في حالة تصعب علي الكافر وهم يحزقون حزقا شديدا لإخراج أي كلام يردون به عار الفضيحة عن أولياء نعمتهم فلم يسعفهم غير الغرف المعتاد من قاموس السباب والبذاءة والتشهير، فإن القلة القليلة التي أكملت تعليمها لجأت إلي بحر اللغة الواسع وأسرفت في نزح واصطياد العبارات والمفردات الفخمة التي لا تكاد تقول شيئًا له معني لكنها والشهادة لله تترصص وتصطف خلف بعضهًا بعضا علي نحو منمق ومرتب بما يوهم القارئ ويلقي في روعه أنه أمام نص يحوي أفكارًا وحججاً يمكن مناقشتها أو التعامل معها بجدية. ولعل النموذج الأشهر والأكثر تفوقًا وبروزًا بين هذه القلة النادرة من المحامين «الإعلانيين» عن الحكومة هو الزميل الدكتور عبد المنعم سعيد الذي أدلي بدلوه في موضوع العار الفولاذي أكثر من مرة، آخرها في مقال شاسع المساحة نشرته صحيفة «الأهرام» التي يرأس مجلس إدارتها يوم السبت الماضي تحت عنوان «مسارح متعددة وقضية واحدة»، ومن أول سطر في المقال ظهر واضحًا أن تلك «المسارح» ليست إلا «مسرحاً» واحداً فقط ذلك الذي تدور علي خشبته الوقائع المخزية المتواترة الناجمة عن العلاقة الملتبسة والشاذة بين العدو الإسرائيلي ونظام الحكم الحالي، ومنها واقعة «الجدار» والذي لم ينس الدكتور سعيد أن اسمه «الميري» هو «إنشاءات هندسية»، أما «المسارح» الباقية المذكورة في العنوان فقد ظهرت مرصصة ومكدسة فعلا في دهاليز المقال بصياغات وإشارات عدة من نوع الجدل الدائر حول اللا «انتخابات الرئاسية» المقبلة، و«علاقة الدين بالدولة» المثارة الآن بسبب كارثة جريمة «القتل علي الهوية» في نجع حمادي.. غير أن الشياطين الزرق شخصيًا لم تستطع في ظني أن تعثر في سطور المقال من أوله لآخره علي «القضية» التي تجمع هذه المسارح كلها، بل عثرت فحسب علي قائمة طويلة جدًا من الأسئلة والاستفهامات حول أهمية وجدوي «جدار العار» وقد وجهها الدكتور لمعارضي بنائه متجاهلا أن إجابتها المنطقية إن وجدت عند حكومة سيادته وليس أي أحد آخر. بيد أن الدكتور للأمانة صاغ أسئلته علي نحو استنكاري لا يشي بأنه كان ينتظر إجابة من معارضين دمغهم بأنهم «مصريون جدد»، أي ليسوا أصلاء ولا قدماء مثل سيادته ونظامه الذي لا يشكك أحد في حقيقة قدمه وشيخوخته، وكذلك وصفهم بأنهم «خوارج علي الحكمة المصرية التاريخية» التي تحذر حضرتك من أنك إذا جادلت سيدة محترمة فقد تلهيك واللي فيها تجيبه فيك.. فوراً.