لست أعرف ما سيقوله القراء في حقي عندما أعترف أمامهم الآن بأنني تعاطفت إلي حد البكاء مع اللص الغلبان الذي نشرت الصحف الأسبوع الماضي خبر وفاته تحت وطأة ضرب وتعذيب شديدين تعرض لهما عندما أمسك به المارة في شارع بحي «العجوزة» بالقاهرة وهو متلبس «بخطف» حقيبة يد إحدي السيدات!! ولا أظن (مع إقراري بأن بعض الظن «إثم») أنني أحتاج لتوضيح أن تعاطفي ليس مع جريمة «خطف» حقيبة سيدة آمنة كانت تسير في الشارع علي قدميها في الصباح الباكر جداً (السادسة أو الخامسة صباحاً) ما يشير إلي أنها امرأة تكافح في الحياة بشرف مثل الأغلبية الساحقة من الشعب لكسب رزق بسيط لا يحتمل أي سرقة وأي «خطف» وقد لا يكون كافياً أصلاً لسد الرمق، لكن تعاطفي وجيشان عواطفي هيجهما حالة إنسان مات هذه الميتة الشنيعة علي قارعة الطريق بعد حياة بؤس وضياع، تشي بهما ما قالته الصحف وهي تصفه (ربما تبريراً لقتله وبهذه الطريقة) أنه «عاطل» رغم بلوغه الثلاثين من العمر، ومن شدة الضنك قد هجر بلدته في محافظة كفر الشيخ وأتي إلي العاصمة منذ ثلاثة شهور حيث «احترف خطف حقائب السيدات وارتكب خمس وقائع دون أن يتم ضبطه»!! وأرجوك متوسلاً أن تطنش وتضرب صفحاً عن هذا «الاحتراف» الذي دليله الوحيد أن اللص البائس المقتول نفذ «خمس» عمليات خطف حقائب يد تحملها سيدات وآنسات في شهور ثلاثة (لاحظ الدقة)، أي بمعدل حقيبة ونصف تقريبا كل شهر (!!) كما أرجوك أيضاً وأستحلفك برحمة أغلي الميتين عند حضرتك ألا تسأل أبدا عن الوسيلة التي عرف بها الزميل محرر الخبر و«مصدره الأمني» أن القتيل ارتكب هذه العمليات الخمس مع أنه لم يسبق ظبطه وروحه صعدت إلي بارئها قبل أن ينطق بحرف واحد في أي تحقيق رسمي أو عرفي؟! رجوتك واستحلفتك حتي لا نهمل ونضيع الموضوع الأصلي ألا وهو هذه القسوة (حتي لا أقول الهمجية) الجماعية التي تنضح من حادثة قتل هذا اللص الغلبان علي أيدي مواطنين لا صفة ولا حيثية لهم سوي أنهم مجرد عابري سبيل تطوعوا مشكورين لمساعدة سيدة تعرضت لحادث سرقة، وأتساءل فقط: ألم يكن بمقدور هؤلاء أن يكتفوا بالقبض علي هذا اللص وتسليمه للشرطة (علي فرض أنها لم تشارك الشعب في قتله باثنين من رجالها) وأن تتولي هذه الأخيرة تقديمه للعدالة لكي يعاقب علي جريمته بالعقوبة المنصوص عليها في القانون ، وهي بالمناسبة أقل وأخف كثيراً جداً من «الإعدام» علي قارعة الطريق؟! وهل عابرو السبيل أولئك كانوا سيبدون كل هذا الإقدام وكل تلك الشجاعة لو لم يكن اللص المقتول أعزل (لايحمل سلاحاً) وغلبان وخائباً علي النحو البادي من سياق الواقعة ؟! وهل لو كان أظهر أي مظهر من مظاهر القوة (المادية أو المعنوية) كان قتلته سيصمدون ولا يرتدون أو ينكصون علي أعقابهم ويهربون بجلدهم من المنطقة ولسان حالهم يردد : واحنا مالنا ياعم ؟!! ثم ما الذي حدث في هذا البلد ونزع من قلوب أهله (أو نسبة كبيرة منهم) الشفقة والرحمة مع أن هذه الأخيرة أعلي وأسمي ومقدَّمة في أي دين وكل شرع علي العقاب والقصاص ؟! أسأل وأنا أعرف الإجابة (وأنت أيضاً) وأعرف كذلك العلاقة العكسية بين شيوع القسوة والجلافة وانحطاط الأخلاق والذوق وبين ظاهرة «التدين الشكلي» التي تتفشي وتنخر في أرواحنا وعقولنا منذ سطت عصابة «القط الأسود» علي السلطة والثروة من عشروميت سنة وقادت مجتمع ودولة المصريين المحدثين بالقوة والإرهاب إلي خراب شامل لم يوفر حتي النفس الإنسانية وتعممت في ظله «الخصخصة» حتي شملت التعذيب!!