بتقديم بسيط وتلقائية محببة وخفة دم واضحة، صدَّرت الفنانة والكاتبة (إسعاد يونس) المجموعة القصصية (دفا السبرتاية) للكاتب (أحمد المصري)، وبكلمات معدودة لخصت الجو العام للمجموعة التي يجتمع فيها الشجن والحكمة والتأمل وخفة الدم. وسر بساطة المجموعة هو هذه اللغة الشبابية البسيطة التي استخدمها (أحمد المصري) في كل قصصها، وهذه الروح الوثابة العصرية التي برزت من خلال كتابة بعض الجمل باللغة الإنجليزية، وإدراج بعض (إيموشنز) شات الكمبيوتر أثناء السرد والحوار في بعض القصص، وكتابة إحدي الجمل بخط اليد المبعثر ضمن أحداث إحدي القصص، بل إنه استخدم صورة منسوخة حقيقية من موقع الفيس بوك تعرض حساباً خاصاً لإحدي بطلات قصصه! ورغم هذه الروح التي تبدو «شقية» في مجمل الحديث، فإنها مع ذلك تنضح بالشجن، فالمجموعة كلها تتسم بهذا الجو الملبد بالدموع، وهذا السكون الجنائزي الذي يطل علي القارئ بداية من غلاف الكتاب وحتي نهايته، تتنوع أسباب هذا الشجن، بين الحزن العائلي والحزن العاطفي المتمثل في الحب المفقود، والحزن العام، ولكن (أحمد المصري) في كل مرة يستخدم أسلوباً مختلفاً لترويض هذا الحزن، وتقديمه للقارئ في صورة جذابة مقبولة. تعال معي مثلاً إلي أولي قصص المجموعة (دفا السبرتاية) التي حملت المجموعة اسمها، وحاول - ولن تستطيع - أن تكتم حزنك وألا تتعاطف مع الأب العجوز (محمود) والأم الحنون (فاطمة)، وهما ينتظران وصول أولادهما المقيمين بالخارج في المطار بفارغ الصبر، يُمنِّي كل منهما نفسه بقبلة حانية وحضن دافئ، وأحفاد لا يعرفون عنهما غير اسميهما، وتأتي لحظة اللقاء العاصفة حينما تصدمهما الحياة بجفاء أبنائهما وجحودهم.. إنها الغربة وما تفعله بالقلوب.. هذه الحسرة يجسدها الكاتب علي لسان الأب الحنون في المطار بعد صدمته هو وزوجته قائلاً: "عندما يحدث كل شيء بسرعة، يكون الأمر غير محتمل.. يجعلك لا تصدر رد الفعل المنطقي في مكانه المناسب.. التفتُّ للمسكينة أرمقها بأسي، يبدو أن مخزون الدموع من اليوم قد انتهي! لذا أمسكت بيديها وعلي وجهي ابتسامة مريرة قائلاً لها بصوت اختنق بالبكاء: - عارفة أنا نفسي ف إيه دلوقتي؟ - «......." - نفسي في فنجان قهوة معتبر من إيد (طمطم) علي السبرتاية!" فرغم هذا الموقف الصعب، وهذا الشجن الذي يقطر من خلال الحوار بين الأب المكلوم والأم الثكلي عن أبنائهما الجاحدين، إلا أن الكاتب يجد ملجأ لإعادة الحياة إلي طبيعتها، وهو فنجان القهوة الذي تعده (فاطمة) دائما علي السبرتاية كما تعودا، إنها هذه النشوة الدافئة التي يشعران بها وفاطمة تعدّ الكَنَكة وتشعل السبرتاية، ليتوحدا أمام لهيبها وينعما بدفء لم يجداه في أبنائهما. نفس هذا الشجن ستجده أيضاً مع (يوسف) الحبيب الذي تعلق ب (هنا) المريضة التي تنتظر الموت بين لحظة وأخري، ويحبها ويخطبها بالرغم من معرفته أن لقاءهما قصير، وتأتي المفاجأة بموته هو، وستجده أيضاً مع ذلك الكاتب الشاب الذي يجلس ليكتب قصة حزينة خيالية لفتاة لا يعرفها تجلس أمامه في أحد الكافيهات، ويتحول الخيال فجأة إلي واقع، وستجده أيضاً في ذلك الزوج العاشق المكلوم الذي يتصل بأحد مطاعم (التيك أواي) ليقص علي (مني) التي تستقبل المكالمات، قصته مع زوجته التي عشقها وماتت فظل علي حبه لها بالبقاء أمام عظامها، وغيرها وغيرها من القصص التي تشترك كلها في هذا الجو المشحون بالحزن.. وبالموهبة أيضاً. (أحمد المصري) لا يعتمد علي أفكار عبقرية مبتكرة ولا تداخلات معقدة بين الشخصيات، فمعظم القصص تبدو مكررة من حيث الفكرة، بداية من نكران وجحود الأبناء مروراً بالحبيبة المريضة التي يتحول شعور البطل بالشفقة عليها إلي عشق، وفتاة (الكافيه) المجهولة، وحتي مشكلة عدم الإنجاب بين الزوج والزوجة.. كل هذه الأفكار هي أفكار مطروحة مسبقاً ومكررة، ولكن الجديد، والذي نجح فيه الكاتب، هو طريقة الطرح، وجمال الأسلوب، وحميمية تداعي هذه الأفكار، بالإضافة إلي لغة الحوار البسيطة السلسة جداً، التي تتفجر بالحنان والحنين والدفء، لتصبح المجموعة كلها اسماً علي مسمَّي، وليصبح من المتوقع أن تقرأها وأنت بالفعل تجرِّب «دفا السبرتاية»! يبقي في النهاية أمر لم أفهمه، وهو وضع صورة القديرة «إسعاد يونس» علي ظهر الغلاف.. لا أنكر فرحة الكاتب المتوقعة بتقديم فنانة وكاتبة متميزة بقدر «إسعاد يونس» لكتابه، لكنه في النهاية كتاب يحمل اسم مؤلفه ومُبدِعه، وقيمة الكتاب بمن كَتبه لا بمَن قدَّمَه، فكان من الأولي وضع صورة المؤلف إن كانت الصورة أمراً ضرورياً بالأساس.. مجرد رأي! الغلاف:صورة فوتوغرافية لوجهين متقابلين لشاب وفتاة.. يتفجر خلفهما الضوء، ليظهر لنا نصف الوجه المُوحي الصامت الساكن الذي يمتلئ دفئاً وسكوناً.